يواجه الشعب السوري الثائر على الظلم آلة دمار لا ترحم، تعمل على قتل "الإرادة" قبل أن تزهق الأرواح. وكل العالم شاهد كيف يذبح الإنسان أخاه الإنسان يوم العيد، بوحشية لا تصدر من طبيعة بشرية سوية.

لا يمكن فهم هذا السلوك الشائن القبيح المقزز إلا أن يكون محركه "سياسة" تتبناها الأجهزة الأمنية بهدف نشر المزيد من الرعب والإذلال، والقضاء على روح المقاومة.. وهذه الوحشية لا يمكن تفسيرها بأنها "لا إنسانية" نابعة من فطرة أفراد الجيش أو الأجهزة الأمنية، فليس من الطبيعي أن يفقد الإنسان – أي إنسان- إنسانيته دون دافع عميق زرع في "لا وعيه" بأنه يهدد وجوده، وهذا "الدافع" يكشف طبيعة التربية التي تنشأ عليها أجهزة النظام، حيث ترسخ ثقافة "الشك" التي تزرع بينهم وبين المواطنين، وهذا معناه أن النظام يدرك حقيقة "انفصاله" عن غالبية الشعب، ولهذا يتبع سياسة "الهروب إلى الأمام" فهو لا يرى له حياة إلا بقهر الثائرين، لأن بقاء المقاومة واتساع دائرتها يؤدي إلى نهايته، وهذه "الثقافة" بنت جبالا من الأحقاد والضغائن والكراهية وأسباب الثأر التي لن تكون نتائجها إلا الانتقام من هؤلاء الحكام الظلمة وأجهزتهم الوحشية حين السقوط.

ويمكن أن يكون في هذا ما يفسر "القسوة" غير الطبيعية التي نشاهدها على الساحة السورية، من تصرفات رجال أمن يفترض أنهم تربوا على أن أمان وحماية المواطن هي مسؤوليتهم وغايتهم، أي أن الحاكم في سورية والدائرة الضيقة التي تحيط به تدرك أن حياتها مرهونة ببقائها في السلطة المتجبرة ذات الصوت والرأي الواحد، وليس داخل نظام فيه أكثر من صوت وأكثر من رأي، هذه هي طبيعة العلاقة بين الشعب السوري الثائر وبين المجموعة الحاكمة، وهي علاقة متأزمة منذ عشرات السنين، وكانت حركات "الرفض" طوال الفترة الماضية، توأد في مهدها دون شهود أو حضور إعلامي يكشف مساحة القسوة كما يكشفها الإعلام الحديث، بطل المعارك المعاصرة.

والجميع يدرك أن "المسألة" السورية معقدة متداخلة الخيوط، تتقاطع فيها المصالح والأسباب المحلية والإقليمية والدولية، وتشتبك فيها الأطماع والمصالح السياسية بالمشاعر الطائفية، كما يختلط فيها الاستراتيجي بالتكتيكي.. وإذا تجاوزنا "النسيج" المحلي، بكل تعقيداته ومآسيه، ونظرنا إلى الاهتمام الخارجي فإن سورية تعد مسرحا "نموذجيا" للعبة الأمم وصراع المصالح وتصفية الحسابات الدولية، وميدانا يكشف ضعف بعض اللاعبين ومهارة آخرين، وخيبة أمل البعض وخسائر البعض ومكاسب آخرين.

وعلى "أرض المعركة" تكشفت ضآلة وخفة وزن الحضور العربي الذي كان يفترض أن يكون اللاعب الرئيس بل الأوحد في هذه القضية، لأنها تمس جزءا من أرضه وشعبه ومصالحه وأمنه، لكن، وللأسف، ظل متفرجا مدة ثمانية أشهر، والسوريون يتعرضون لكل ألوان العذاب على أيدي آلة الدمار دون أن يتحرك. وحين تحرك كان ضعيفا مترددا غير حازم، يعرض خطة غير قابلة للتنفيذ، وكأنه يبحث عن "عذر" حتى لا يلام.. هذا الضعف العربي شجع أطرافا محلية لأن تظهر ارتباطها بمراكز قوة إقليمية، كما فتح الباب واسعا لألعاب "عض الأصابع" لاختبار قوة التحمل وطول النفس وضبط الأعصاب بين المتصارعين. فها هي تركيا ـ بعد التردد ثم الهجوم الإعلامي والدبلوماسي على النظام السوري وتهديده ـ ها هي تدخل مع دمشق الأسد في لعبة تحريك المعارضات الداخلية، وتعلن أن النظام السوري يلعب بالنار حين يستخدم ورقة حزب العمال الكردي. وبهذا تكون تركيا تزحزحت عن مكانة الدولة القوية التي يهاب جنابها إلى جارة فقدت بعض بريقها وحيويتها وفعاليتها، بل أكاد أقول هيبتها التي تراكمت طوال السنوات الماضية لمواقفها المتعددة من التعنت الإسرائيلي ومناصرتها للفلسطينيين وموقفها "الموزون" من العلاقة مع إيران رغم معاداة الغرب وهو الحليف الاستراتيجي، وما يزال الغرب (أميركا وأوروبا) في موقف المتردد من الذي يجري في سورية، باستثناء الحملة الإعلامية وبعض الضغوط الاقتصادية والسياسية التي لم تشكل أي خطر، حتى الآن على النظام السوري، بسبب الموقف الروسي والصيني الذي يتحرك خلف المسرح مشتبكا مع خيوط المصالح الإيرانية.

وهكذا تبدو إيران اللاعب الأبرز الذي يقود الحرب على الساحة، باعتبارها "جبهة متقدمة" نسج عليها ومن حولها تحالفات باتت تشكل وزنا في الملعب الداخلي في المنطقة العربية.. فهل يمكن القول إن إيران نجحت ـ حتى الآن ـ في صد الهجوم على هذه الجبهة؟

بدون الوقوع في خطأ التسرع والمجازفة بنعم أو لا يمكن القول ـ باطمئنان ـ إن إيران ما تزال ماضية في سياستها المعلنة والخفية في خوض معركة مناصرة النظام السوري، وتجييش كل القوى المحلية الإقليمية والدولية للمساعدة في صد الهجوم السياسي والاقتصادي، وتحفيز "الوكلاء" المحليين والإقليميين لإثارة المزيد من الشغب والتشويش على خطاب مناصرة الشعب السوري ضد الظلم. هذا "الانضباط" الإيراني والقدرة على تحريك عناصر قوته يقابله "تراخ" وتشتت في الجبهة الأخرى بقيادة الولايات المتحدة مع انحسار التأثير العربي، فما يزال هذا الفريق "يبحث" عن معجزات لإنهاء النظام دون دفع فاتورة التكلفة أو مساندة من يستطيع دفعها في المنطقة.

هكذا يبدو المشهد، وهكذا يبدو أن إيران تحقق نجاحا على طريق "صد الهجوم" المتردد في هذه المرحلة. والسؤال المحوري في هذا الصدد هو: هل تستطيع التدخلات الخارجية، بما فيها إيران، أن تثني الشعب السوري عن المضي في الثورة على الظلم؟ وهل يستطيع الثوارالسوريون الاستمرار في تقديم التضحيات بدون مساندة خارجية؟

رغم قوة "الدفع الذاتي" للثورات إلا أن التجارب تشير إلى أن الأنظمة الدكتاتورية المتوحشة تستطيع أن تقضي على طموحات الشعوب في ظل الصمت الدولي والتآمر الإقليمي، فماذا سيكون مصير ثورة رفض القهر في سورية؟