هناك الكثير من مسميات الوظائف في جميع أجهزة الدولة يمارس شاغلوها أعمالاً لا تمت بصلة لمسمى وظائفهم، وقد يزاولون مهام أقل مما يدل عليه ذلك المسمى، والسبب - والله أعلم - لا يعدو أن يكون عيباً في أحد ثلاثة:-
1/ الموظف شاغل الوظيفة، والذي شغلها للحصول على مرتبتها، لا للقيام بمهامها؛ لأن قدراته لا تتلاءم مع الوظيفة، أو لأنه ممن ينشغل عن أداء وظيفته إلا بحوافز إضافية، أو بعقوبات متلاحقة، أو بمراقبة صارمة، وهنا يُقضى على الوظيفة بالبيات حتى يحين موعد ترقية شاغلها، فينظر فيمن يحل محله، وهكذا.
2/ الرئيس المباشر لشاغل الوظيفة، بحيث لا يمكِّن الموظف من مباشرة مهام وظيفته النظامية؛ حتى ينفرد الرئيس بصلاحياتها، أو حتى لا تنكشف أسرار تلك الوظيفة، وليس أمام الرئيس إلا أن يكلف الموظف بمهام أخرى، أو يقصر عمل الموظف على جزء من مهامه النظامية، ويتولى هو الباقي، أو يكلف به من يراه.
3/ الجهاز الإداري الذي يعمل فيه شاغل الوظيفة، وهذا يمكن أن يكون مقبولاً في بدايات إنشاء الجهاز، وقبل الاستعداد الكامل للتشغيل بكامل الطاقات، أما أن تكون الإدارة فاعلة، والحاجة الملحة لكل مسميات وظائفها قائمة، وتبقى بعض الوظائف الهامة في الجهاز بدون تفعيل: فتلك المأساة التي تعود بالضرر على الجهاز وعلى الخدمات التي يؤديها على النطاقين العام والخاص.
ومن الوظائف العدلية التي أصابها ذلك المرض العضال وظيفتا: المستشار، والأمين العام، مع أنهما من أهم وظائف المحاكم وأنفعها للمسؤول وللخدمة التي تؤديها المحكمة لمراجعيها.
إن لي صلة بأحد فضلاء المستشارين في إحدى المحاكم، وهو من خيرة الشباب الطموح المتطلع للنفع والقادر على أداء مهمته على نحوٍ فريد متقن، وكنت أتحدث إليه - بين الحين والحين - في موضوعات عدة، فتبين لي أن رئيسه المباشر لم يمكِّنه من أداء وظيفته كما ينبغي له ومنه، وأن مرد ذلك إلى اختلاف بينهما في الأفكار والمعتقدات نحو بعض المسائل التي لا علاقة لها بالعمل القضائي، مما يعني أن هناك إعمالاً لأيديولوجية مشوهة من قبل ذلك الرئيس تجاه موظف قادر على أداء وظيفته كما ينبغي، وأن كفاءة الموظف وإشغاله للوظيفة بصفة رسمية هما الحائل بين الرئيس وبين إبعاد الموظف عن وظيفته. ولا يستبعد أبداً أن تحاك المؤامرات على ذلك الموظف للإطاحة به، وأقل ما يمكن حصوله في مثل هذه الظروف أن يكون الموظف تحت المراقبة اللصيقة؛ لاقتناص ما يمكن أن يقع فيه من أخطاء، أو ما يحصل منه من تقصير؛ للنفخ فيه وتضخيمه تمهيداً للتخلص منه. وهذا الحصار النفسي يجعل الموظف قلقاً في حاضره وعلى مستقبله، وقد يورثه هذا عُقداً وأمراضاً، بل إنه يُفقد الموظف ثقته في جهازه وقياداته، فضلاً عن أن هذه الممارسات تعمل على تفريغ الوظيفة من خدماتها، وتعطيل الموظف عن خدمة بلاده بأداء ما ائتمنه عليه ولاة أمره، وتلك لعمري هي الطامة. أما أمانات المحاكم: فتلك الوظيفة المعطلة، التي لو أنها وجدت قوالبها التي تصب فيها مهامها لأنتجت وأثمرت عملاً قضائياً مشرفاً، وَلَسهُل على أصحاب الفضيلة القضاة نظر قضاياهم، ولتيسر على أصحاب القضايا متابعة معاملاتهم، ولنا أن نتصور محكمة يعمل أمينها العام وجهازه الإداري المتخصص الأمور التالية:-
1/ استقبال أصحاب الدعاوى، والتحري عن الاختصاص النوعي والمحلي قبل تقييد القضايا.
2/ التأكد من تحرير أصحاب الدعاوى لدعاواهم، وتوجيههم بتكميل نواقص ملفاتها؛ من وكالات ووثائق ومستندات تعضدها.
3/ التوزيع العادل للقضايا على دوائر المحكمة ذات الاختصاص، والإشراف المباشر على تسليمها لتلك الدوائر في أقرب فرصة ممكنة.
4/ تبليغ الدعاوى للمدعى عليهم وفق أحكام النظام.
5/ المتابعة مع المدعى عليهم حتى ورود أجوبتهم، واستيفاء مذكرات الجواب ومستنداتها؛ كما هو الحال مع لوائح الدعاوى.
6/ إعادة تبليغ المدعين بأجوبة المدعى عليهم، والمتابعة معهم لتلقي التعقيبات عليها.
7/ عند اكتمال المرافعة التحريرية بين المتداعين تحدد الأمانة الجلسة الأولى لنظر الخصومة.
8/ يقوم الجهاز الاستشاري في الأمانة باختصار المذكرات المتبادلة بين الخصوم، وتقديمها للدائرة المختصة بنظر القضية؛ لتكون على علم كامل بموضوع الدعوى وحججها ومواقف أطرافها، ولتقف الدائرة على الرأي القضائي المقترح من الجهاز الاستشاري.
9/ مباشرة التشاور مع الدوائر القضائية فيما يحتاجونه من رأي أو تفسير بشأن ما يشكل عليهم من قضايا، ويمكن أن يكون ذلك بمشاركة المستشار المباشر للقضية عند اللزوم.
10/ تلقي محاضر الدعوى عند طلب الدوائر أي إجراء تكميلي عليها، وتنفيذه على الفور، والمتابعة مع جهته حتى استيفاء لازمه.
11/ تلقي ملفات الدعاوى بعد الحكم فيها، لتنظيم قراراتها، وتدقيقها، واستيفاء لوازمها، ومتابعة تكميل إجراءاتها؛ بإحالتها إلى محكمة الاستئناف، أو إلى قاضي التنفيذ.
12/ الإشراف المباشر على حسن تنظيم الملفات في الحفظ، وترتيبها وفق نظام يسهل معه جلبها عند طروء الحاجة إليها.
13/ الإشراف على حضور وانصراف الموظفين، وتوجيه الموظف لما يناسبه من عمل، وإعداد البديل الجاهز؛ ليحل محل من يتعذر عليه مزاولة عمله من موظفي الدوائر لعذر مفاجئ.
14/ مراقبة سير العمل كما يجب أن يكون عليه، واقتراح سبل التطوير اللازمة لتحسين الأداء وتسريعه وإتقانه؛ سواء: من ناحية التجهيزات المساعدة، أو من أوجه التدريب المقترحة للموظفين.
لو أن أمانات المحاكم قامت بواجباتها على النحو السابق: لأمكن القضاة أن يتفرغوا لعملهم القضائي ويقوموا بواجبهم كما يحبون هم أولاً، وكما يؤمله منهم أصحاب الحاجات ثانياً، وكما يريده منهم ولاة أمرهم وفقهم الله.