لم تكن مصادفة أن يختار سمو ولي العهد الأمير سلطان بن عبدالعزيز، حفظه الله، عشيّة الذكرى الخامسة لبيعة أخيه خادم الحرمين الشريفين مليكنا النبيل عبدالله بن عبدالعزيز، أيّده الله، موعداً لأول زيارة يقوم بها الأمير سلطان لجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، إذ لم يكن يفصل عن حلول هذه الذكرى الغالية سوى ساعات قليلة، وهكذا، وعلى طريقة الكبار، وبذوقه الرفيع والعالي جداً، كانت زيارة سمو ولي العهد لجامعة أخيه بمثابة المباركة غير التقليدية وبمثابة التهنئة والشكر أيضاً على منجز يعد من أهم وأجمل إنجازات المليك في حقبته المضيئة.

ويوم الثلاثاء قبل الماضي، كان يوماً تاريخياً استثنائياً مختلفاً وبهيجاً في حياة جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، بل كان (يوم عيد)، كما قال نائب الرئيس التنفيذي للجامعة المهندس نظمي النصر، في مستهل كلمته مرحباً بضيف الجامعة الكبير، وكيف لا يكون يوم عيد والزائر إنسان بحجم سلطان بن عبدالعزيز، رجل الدولة الثاني وساعد الملك الأول، رجل البهجة والخير والجمال، جمال الروح والخِلقة والخُلُق، وصاحب الصدر الرحب الواسع (النفيس).. فقد تعودت كل الأماكن التي زارها ويزورها الأمير سلطان أن تضبط موعد انطلاقة عيدها لحظة وصول ضيفها الكبير إليها، فكل مدينة أو مؤسسة لا ترى أنها "عيّدت" إلا إذا حضر سلطان ووطئ أرضها.

والثلاثاء قبل الفائت، كنتُ محظوظاً جداً، أو على الأدق كان نهمي الصحفيّ هو المحظوظ بوجودي هناك في ثول، داخل أسوار الجامعة، عندما أطل سمو ولي العهد على المكان ببهائه وألقه ونوره وغمر الحاضرين بابتسامته المشعة بالأمل وروح الحياة. وإذا كنتُ قد شرفتُ بحضور مناسبات سابقة لسموه، عديدة ومتنوعة، زماناً ومكاناً، فضلاً عن زيارات أخرى لسموه أتيح لي متابعتها عبر التلفزيون في السنوات الماضيات، وكان ظهوره في جميع هذه المناسبات والزيارات بذات الحضور المتألق والشفاف بابتسامته الصادقة التي يسكبها في قلب كل من يراه من الذين يعرفهم والذين لا يعرفهم، إلاّ أنني في زيارته الأخيرة والتاريخية لجامعة الملك عبدالله تعمدتُ أن أراقب وأرصد إطلالته بتركيز وتأمل كبيرين، فلم أجده أشد فرحاً ولا أكثر سروراً ولا أجمل وأعذب ابتسامة ولا فائضاً بالبشر والانبساط والغبطة من ذلك المساء الذي زار فيه جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، وكنت أرى الأمير سلطان يستمع بكل حواسه للعرض المرئي منصتاً بانتباه واهتمام يمتزجان بالفخر والزهو بإنجاز أخيه خادم الحرمين الشريفين، فيما تومض عيناه ببريق الطمأنينة على غد هذه الأرض ومستقبل أبنائها، كأنما كان تفاعل سموه يجسّد، في حقيقته كل كلمة كتبها في رسالته/ برقيته إلى أخيه الملك عبدالله ليلة افتتاح الجامعة في 4 شوال الماضي، فبينما كان الأمير على سرير المرض يقضي فترة النقاهة في المغرب وكان التلفزيون ينقل في تلك اللحظة حفل افتتاح جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية على الهواء مباشرة وكان الأمير سلطان يشاهد أخاه يستقبل زعماء وقادة دول العالم في مقر الاحتفال الكبير وكيف تحول حلم الملك إلى حقيقة بعد ربع قرن، فأزال عنه منظر هذا الحدث التاريخي العظيم كل شعور وإحساس بالألم والوجع، فطلب سموه قلماً وأوراقاً وراح يكتب لأخيه رسالة أو برقية تفوح محبة وصدقاً واعتزازاً بمنجز ضخم كهذا سيعبر بالأجيال الجديدة إلى الضفة الأخرى من نهر المستقبل الأفضل لبلدنا وشعبه وللمنطقة من حولنا وللعالم أجمع كما هي رؤية خادم الحرمين أيده الله.. وقد رد عليه الملك عبدالله في نفس اليوم ببرقية مماثلة، وهما البرقيتان اللتان كانتا مثار ردود فعل وتحليلات وقراءات مستفيضة وعميقة من الكتاب والمحللين والمتابعين والذين أجمعوا على أنهما، أي البرقيتين المتبادلتين بين الملك وولي عهده أيدهما الله، أكدتا مدى التعاضد والتآزر والتلاحم بين القيادة الساسية فيما بينها من جهة وفيما بينها وبين الشعب من جهة أخرى.

لم ينته مشهد الزيارة عند هذا الحد، فبعد انتهاء العرض خرج سموه في عربة الغولف إلى الساحة الخارجية لمبنى إدارة الجامعة وتوقفت به العربة في آخر الساحة الواسعة عند المشهد المميز من موقع الجامعة قبل تلك السلسلة من الدرجات التي تنحدر وصولاً إلى البحر، وذلك في كناية رمزية عن العلاقة التي تربط بين الجامعة وبين البيئة البحريّة التي تمتد قبالتها، أيْ في ذلك الموقع المطل على منارة الجامعة التي تتوسط أول البحر، أع‍طى الأمير سلطان وجهه ونظره وفكره كله للمنارة التي تقف عند مدخل المرفأ الذي تطل عليه الجامعة، كان المهندس نظمي النصر يشرح لسمو ولي العهد فكرة هذه المنارة وسموه يتأمل كيف تقف بشموخ، لتضيء الحد الفاصل بين البر والبحر، ولتكرّس المكانة المرتقبة للجامعة باعتبارها «منارة إشعاع علميّ» وباعتبارها «النبراس المضيء» الذي يسترشد به طالبو العلم والباحثون عن المعرفة.. وعندما رأيت سموه مستغرقا في النظر بإعجاب إلى هذه المنارة التي يبلغ ارتفاعها 60 متراً، قلتُ في نفسي إن الأمير سلطان بن عبدالعزيز هو منارة الخير والعطاء فما أجمل زيارته اليوم إلى منارة العلم والمعرفة.

كان سمو الأمير سلطان بن عبدالعزيز في قمة سعادته وسروره بما رأى، وحتى لحظة مغادرته وهو يركب سيارة العودة مختتماً زيارته لم يكن سموه ليكف عن الدعاء لأخيه خادم الحرمين الشريفين بالنصر والتوفيق وكان يردد "إنها مفخرة الله ينصركم الله يوفقكم".