إن كان الماضي والحاضر عالمين مختلفين ولكل واحد منهما منطقه الخاص ومساره الذي يختلف عن الآخر، فإنهما مترابطان، تحكمهما علاقة جدلية، بدونها يفقد كل واحد منهما معناه، مثل العلاقة التي تربط بين الحر والبرد والموت والحياة، وكما يستدل الحر بالبرد والبرد بالحر وكذلك الموت بالحياة ولا يمكن أن يكتمل معنى أي واحد منهما بدون الآخر؛ كذلك الأمر بالنسبة للماضي والحاضر، فهما متناقضان ولكن مع ذلك مترابطان ببعض بشكل عضوي، يأخذ كل منهما معناه من الآخر.. ومهما حاول الإنسان أن يتجرد من أحدهما على حساب الآخر، فلن تستقيم له الحياة، فالحاضر هو مشروع دائم للماضي، والماضي امتداد للحاضر، وبدون هذا التنظير الجدلي الفلسفي تفقد الحياة جانبا مهما من ديناميكيتها الحركية، فالماضي يمثل الحلم والكمال في أبهى صوره، ويسعى الكثير من الناس للوصول إليه والابتعاد عن الحاضر المليء بالمشاكل والصراعات الفكرية والتحديات السياسية، التي تفوق قدراتهم المحدودة، ولكن هيهات "أن تصل إلى الكمال أبدا" ـ كما قال سلفادور دالي ـ عبر بوابة الماضي، فالارتماء في الماضي والتحليق في عالمه "الجميل" الذي يتمنى كل فرد منا أن يعيشه ويغوص فيه؛ لن ينجم عنه غير الجمود والتخلف وعدم مواكبة تطور الحياة المعاصرة، وكذلك فإن التشبث بالحاضر على حساب الماضي لا ينجم عنه غير الابتعاد عن عالم البساطة والروحانيات الجميلة، والخيال المجنح إلى عالم التعقيد والمسؤولية، والصراعات الحضارية المتشابكة، فالتوازن بين العالمين ضرورة إنسانية ملحة، وأي اختلال بمسار هذه القاعدة يمثل خروجا من الاعتدال إلى التطرف والتعصب الأعمى، "كما في الجمهورية الشيعية في إيران" و "حركة طالبان في أفغانستان" و"الحركات السلفية الجهادية" والكثير من الحركات والمنظمات التي تتعلق بالماضي وكأنه الحاضر وهو ليس كذلك.

يمكن أن ينسحب هذا القول على الدول والأمم أيضا، فما زال بعضها يفاخر بالماضي السحيق ويعيش فيه، بينما تتقاذفها صراعات الحاضر بكل قسوة، مثل "مصر" و"اليونان" اللتين مازالتا لحد الآن لم تتكيفا مع الواقع المتطور، بل ظلتا رهينتين بماضيهما العريق، والنتيجة أنهما بقيتا على هامش الركب الحضاري تنهشهما المشاكل الاقتصادية وتتراكم عليهما الديون، في حين اتجهت دول أخرى إلى التفاعل، أو هي في طريقها إلى التفاعل مع الحاضر دون أن تهجر إرثها القديم كـ"إسبانيا" و"الصين" و"الهند" و"سنغافورة" و"ماليزيا"، ولم تزل المعجزة اليابانية والطريقة المبدعة التي تم فيها الدمج بين الحاضر والماضي في "اليابان" تحير العقول، فقد استطاعت هذه الدولة المعجزة على الرغم من تقدمها العلمي الهائل أن تحتفظ بعلاقة حميمة مع الماضي، يقول "كازواو اوسومي" في مقاله "الديانة اليابانية" (إن معابد الشنتو "إحدى الديانتين الرئيستين في البلاد" هي 80000 معبد، والمعابد البوذية "الديانة الأخرى الرئيسة" هي 75000 معبد موزعة في طول البلاد وعرضها.. وفي استفتاء أجرته هيئة الإذاعة والتلفزيون اليابانية (NHK) تبين أن (80%) من الشعب الياباني يدعمون ويؤيدون زيارة المعابد..)

ولقد أخفقت الكثير من الأمم الإسلامية في تطويع الماضي لمصلحة الحاضر، وفشلت في تطوير آلية للتوفيق بين الاثنين، وأخذت الماضي بقضه وقضيضه وبشكل مشوه وعاشت فيه.

إن جر الماضي إلى الحاضر ليس بالعملية السهلة أبدا، بل تحتاج إلى آلية علمية متطورة واختصاص عال ودراية واسعة وعلم متقن بالاثنين، فليس كل الماضي صالح لزماننا، ولا كل الحاضر بحاجة إلى تنظيرات من الماضي مهما كان مشرقا وزاهيا ليكون صالحا، بل تحتاج عملية التوافق بين الاثنين إلى جهد جهيد ودراسة معمقة، ولكن ما قمنا به لحد الآن بهذا الخصوص لا يعدو عن كونه "محاولات" غير موفقة لدمج العالمين المختلفين في بوتقة واحدة، باستثناء المحاولة الناجحة التي قام بها "مهاتير محمد" في تحديث دولة "ماليزيا"، ونقلها من "دولة زراعية تعتمد على إنتاج وتصدير المواد الأولية إلى دولة صناعية متقدمة"، مع احتفاظه بتراثه الديني والقومي.. فلا نحن استطعنا أن نحيي القيم الماضية بالشكل المطلوب ولا استطعنا أن ننهل من التقدم الجاري ونواكب التطور الحاضر بالصورة المطلوبة، يعني ضيعنا المشيتين "لا طلنا عنب اليمن ولا بلح الشام".

ما زلنا نعيش في متاهات أنفسنا ولا نريد الخروج منها.