عبر تاريخها، مرت شبه الجزيرة العربية بعزلة ثقافية وجغرافية وحضارية في كثير من مناطقها ذات الطبيعة الجغرافية الحادة، ولا سيما أن الصحراء الممتدة فيها كانت مخيفة بالنسبة لمن يحاول اختراقها من خارجها، إلا أنها كانت بالنسبة لأبناء الصحراء لا تحتاج إلى دليل يهتدى به سوى النجوم وطبيعة الأرض.
عاش المجتمع ردحاً من الزمن لا حراك فيه سوى من بعض الحاميات العسكرية العثمانية وغيرها، وكذلك من قبل بعض الرحالة الأوروبيين الذين قدموا من أقاصى القارة الأوروبية، يتوفر فيهم هوس الاكتشاف وروح المغامرة من جهة، والعمل كعيون وآذان عبر تقاريرهم التي يقدمونها لدولهم عن حياة الصحراء بشكل عام، لكن الكثير منهم استمتعوا ومتّعوا العالم بما وثّقوه رسماً وكتابة عن حياة الصحراء العربية.
وبعد اكتشاف النفط في شتى المناطق من شبه الجزيرة العربية، لم تعد تلك العزلة الثقافية والجغرافية مناسبة ولا مقبولة، فتغير الأمر شيئاً فشيئاً، بدءاً من دخول وسائل النقل الحديثة حينها كالسيارة والطائرة التي حلت مكان الجمال والخيل والبغال، وبالنسبة لمجتمع المملكة العربية السعودية كان لإنشاء (أرامكو) وفروعها الدور الأبرز في تغيير عقلية بعض فئات المجتمع التي احتكت بالقادمين الجدد، بدءاً من اللغة وليس انتهاء عند وسائل عيش حضارية جديدة.
ورغم كل ما سبق من تغيرات اجتماعية وثقافية في سلوك المواطن السعودي، إلا أنها لم تكن شيئاً مذكوراً مقارنة بما نعيشه اليوم وما سوف نعيشه غداً في خضم وسائل الاتصال الحديثة، التي سهلت التواصل.
وفي خارج سياق الثقافة العربية تداخل العالمان (الواقعي والافتراضي) حتى أصبح الفرد لا يشعر بفرق جوهري بينهما، بل إنه قد لا يستطيع التفريق وفصلهما عن بعضهما، فما يحدث في عالم الواقع يتحول مباشرة إلى العالم الافتراضي، والعكس صحيح، ما يحدث في عالم الافتراض يتحول إلى عالم الواقع ليترجمه الأفراد سلوكاً مجتمعياً.
وما إن نذكر التقنية الحاسوبية حتى نذكر الراحل ستيفن جوبز، الذي استطاع تغيير الواقع في العالم، وأسهم في تحرير العالم من خلال اختراعاته المتجددة في عالم الكمبيوتر، وفي حادثة جميلة وطريفة ذهب ستيف إلى صديقه القديم جون سكالي الذي يعمل في شركة كوكا كولا، حيث دعاه للعمل بالقول: هل تريد أن تبيع المياه المحلاة بالسكر بقية حياتك؟ أم تريد أن تأتي معي لنغير العالم؟ وكان له ما أراد، استطاع ستيف وصاحبه وآخرون أن يغيروا العالم من خلال شركة آبل الشهيرة في صناعة أجهزة الحاسوب.. وكان كلما سئل عن تحقيقه طموحه يقول: ما زلت في بداية الطريق! إنه الطموح اللامحدود، والأفق الواسع، والحرية التي علمت العالم أنها الرحم الأصل لولادة التغيير في العالم.
لقد انتهت العزلة في العالم بشكل تدريجي عبر مراحل تاريخية محددة، وربما أستطيع القول إن هزة التغيير بدأت منذ التسعينيات حيث انتشار الأطباق الفضائية، والانفتاح على العالم الخارجي، العالم من خلال القنوات الفضائية، ثم ما أعقب ذلك من تطورات متسارعة في عالم الإنترنت ووسائل الاتصال، التي بها كشف الغطاء نهائياً.
في خضم التغيير الحاصل في هذا العالم، نجد في مجتمعنا بقايا العزلة والسكون الموروثة من أزمنة ماضية، إلا أنها بدأت بالتلاشي بفضل التقدم التقني الذي أصبحنا فيه بمثابة قارب يجوب المحيط!
من غير المعقول أن نصرَّ على بقائنا ساكنين عن التطوير والتغير، فهو أمر حتمي لا يمكن النظر إليه على أنه (لا شيء)، ودعاة العزلة ربما يعرفون أنهم يقعون خارج الزمن، وما يعيشه المجتمع من أشكال وجوانب للعزلة الواقعية يذوب منذ أول ضغطة زر على جهاز الحاسوب الشخصي، الذي لم يعد الفرد يحمله في حقيبة إنما يحمله في جيبه، ومن خلاله يخرج من واقعه المغلق إلى واقع فضاء غير محدود بأي حواجز.
وما يفترض التنبه إليه بشدة هو مواكبة الواقع لتطورات العالم والعالم المفترض، فالانفتاح يحتم هذا الأمر ويجعله أساسياً، لأننا قد نجد أنفسنا في يوم وسط أزمة كبيرة لا نستطيع الخروج منها بالانفتاح المفاجئ، الذي ربما يكون غير مأمون الجانب، وهنا نحن أمام استراتيجية يجب أن تكون سريعة الخطوات، بواسطتها يتغير المجتمع، ويتقبل التغيير على أرض الواقع، لأن تأثير التطور التقني والتغيير في العالم الافتراضي له انعكاساته على الفرد والمجتمع اللذين يتأثران به حتماً مهما كان الهدوء والسكون، ولا سيما أن التواصل مع العالم الخارجي يعني الوعي بالذات وبالمجتمع وبالعالم أجمع، وبالتالي حين تهب عاصفة ما فإنها تلقي بتأثيراتها على الجميع ولن تستثني مجتمعاً دون آخر، كما حصل في أزمة الحادي عشر من سبتمبر، التي تجاوزناها بصعوبة وكلفتنا الكثير على عقد كامل، ولا نعرف بالضبط ما الجديد الذي سيحدث في هذا العالم.
ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي يمكن التعرف على نسبة الاحتقان التي يعيشها المجتمع، هذا من جانب، ومن جانب آخر يمكن التعرف أيضاً على تطور التفكير الفردي، فالفرد نتيجة لسبل التواصل بدأ يقارن بينه وبينه فرد آخر يعيش في مجتمع مختلف وثقافة مختلفة، ويتوق لأن يصل إلى ما وصل إليه.. ومن خلال الانفتاح على العالم افتراضياً تنتهي عزلة الواقع، لأن ذاك الانفتاح هو الطريق إلى التطور والتغيير، فلا يمكن أن نقف ساكنين في عالم يتحرك!