لدى كل الشعوب عيوبهم ونسقهم الخاص، وليس عيباً أن نعترف بأخطائنا وعيوبنا ونحاول معالجتها، القصة باختصار بدأت لدى قلة من أفراد مجتمعنا السعودي الذين يعتقدون بتفردهم وتميزهم عن شعوب خلق الله فلم يحترموا (الإنسان) بدءاً من الإنسان نفسه ثم بالآخرين، والاثباتات لدينا في الامتداد السلوكي الاجتماعي - وفي جزء منها - لما يعانيه كثير من الوافدين كمثال نتناوله يثبت واقعاً سقيماً لكثيرنا ممن يستقدمون وافدين لوطننا للعمل استعباداً، يمارسون عليهم عنصرية قاسية تبدأ إهانةً بتعطيل حقوقهم، ومعاملة أدنى كعبيد خُلقوا وماتوا من أجلنا منزلةً وتعاملاً.. وقبلها أسفاً إصدار ألقاب عنصرية باهتة، وصمناهم بها وألفاظ كثيرة يُكوى قلمي خجلاً من كتابة بعضها!
انظروا إلى طفل لم يتجاوز الخامسة من عمره يبصق في وجه الخادمة ووالداه يضحكان طرباً ورذاذ الخطيئة يلوحهما والعنصرية منذ الرضاع..! وطفلٌ آخر يضرب السائق وألفاظ وصراخ وهو يفتل عضلات العنصرية أمام زملائه..! وكم قصة حرمان من أجر عرق مبلول لم يجف بزفرة حزن وقهر بطلها صاحب شركة أو مؤسسة..!.
الوافدون ليسوا سواء فمنهم من شارك في بناء وتنمية هذا الوطن الذي يتسع لكل أصناف البشر، وهنا فقط أستطرد عن قصة بطل ووفاء ملك؛ فالباكستاني الجنسية فرمان علي خان – رحمه الله - رجلٌ لم يعلن عن نفسه، رجلٌ نثر الدموع على وجنات تراب وطن وشهداء أربعاء جدة، قبل عامين.. رجلٌ أكرمه الله بالشهادة، فمات غريقاً ولم يكن غرقاً عادياً، بل كان في سبيل إنقاذ 14 روحاً طاهرة فاجأتها السيول، قام بتجميع (حبال) الإيمان وصيرورة حب البقاء له ولغيره وأوصلها ببعضها البعض، ربطها في أحد الأنابيب قبل أن يلفها حول جسده النبيل للدخول إلى المياه وإخراج المحتجزين ومن جرفتهم السيول، ثم وقع منهاراً داخل المياه وغمرته سيول جدة الجارفة الحارقة!
حدثٌ ألغى وقتها فروق الجنس والعرق والنظرة القاصرة نحو مقيمين تجلت شجاعتهم في مواقف حرجة، قصةٌ كتبها فرمان خان قبل أن تدفعه الشهامة، وتوجهه المروءة دون الحاجة إلى خطاب تعريف، أو تأشيرة دخول، أو تفويض رسمي للإنقاذ!
قلوب السعوديين قابلته حينها بنشوة، فجرفت (فرمان) أيضاً نحو أواصر زراعة بياض النقاء وسط فواجع السواد، فحملاتهم وشكرهم طُرزت شهامةً وأصالةً صُدِّر حائطها بسرعة فاجعة أربعاء جدة تنامياً مع ظاهرة الحملات السعودية دعوةً لتكريمه وحملات هنا وهناك طالبت بتسمية أحد شوارع جدة باسمه، أو بمنحه وسام الملك عبدالعزيز، أو بتكريم بناته الثلاث وزوجته مادياً بعد أن فقدن مصدر رزقهن، أما البقية من سمع أو قرأ عنه فابتهل ولهج إلى الله أن يتقبله شهيداً ويعوضه خيراً في حياته.
هنا فقط كانت عقدة القصة وحبكتها الإنسانية؛ فقد أطفأت الفاجعة جذوة العنصرية، وأذابت بذاءة الكلمات، وجرفت السيول معانيها، وأجمعت العقول والقلوب أن هناك فرقاً بين من يعمل لإنقاذ أرواح البشر وهناك ساذج (أجوف) لا يعرف قيمة الإنسانية يسمى عنصرياً، كما سطر الموت كعادته أفضل سجاياه من المساواة، الذي لا يعرف فيها غنياً أو فقيراً، ضعيفاً أو قوياً، أبيض أو أسود، مواطناً أو مقيماً، لكنه يُبقي الذكرى ولا يعطلها، وذكرى الشهيد البطل فرمان خان هي التي تنتظر أن نؤمن في هذه الحياة وقبل ذاك أن موتنا سواء، ولأن التربية السليمة هي الداعية إلى المساواة، بل هي صفات المجتمع الحضاري الإنساني الإسلامي السليم من عقدة (الآخر) أياً يكن بمعزل عن دين ومذهب ودولة وعمل ومنطقة وقائمة تطول في عقول البعض.. فأتى انبراء خادم الحرمين الشريفين – يحفظه الله - بمنح الشهيد فرمان علي خان - رحمه الله - وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى أولاً، ثم استضافة عائلة الشهيد لأداء فريضة الحج ضمن برنامج ضيوفه، درسٌ آخر ولفتة وفاء ليست بمستغربة، تقديرا لعمله البطولي الإنساني وتكريماً له وأسرته على هذا العمل الإنساني النبيل.
رأسُ هرمنا – يحفظه الله - قدمَ جذوةَ فصل أنيق للوفاء لمن يستحقه دون النظر في جوازه وختم دخوله، مع إيماءة إنسانية تجفف منابع العنصرية بزراعة التسامح والتعايش مع (الإنسان).
ولم يبق لنا درس من هاتين القصتين سوى الأمل في تبني مشروع قضائي أو قانوني للقضاء على أعداء أنفسهم (المتعنصرين) ضد الإنسانية ووضع حدوداً قانونية بمشاركة تصل إلى المنازل والمدارس والمقررات والشوارع تعلن عقاباً شديداً لكل من يجرؤ على الإنسانية وتجاوز حقوقها بكلمة أو تعامل.