لم يتضرر قوم من الخلافات الطائفية والعرقية القائمة بين المسلمين مثل ما تضرر الأكراد، فهم بحكم تواجدهم بين أمتين جبارتين متصارعتين، كان لهما دور بارز في قيادة الأمة الإسلامية لفترة من الفترات وأقصد؛ العثمانية التركية والإيرانية الفارسية، كانوا دائما أول الضحايا لنزاعاتهما الدموية المستمرة التي لا تنتهي، ولن تنتهي مادامتا تتنازعان على مصالح مشتركة وتتقاطعان في أهداف توسعية واحدة، وهما يعملان أي شيء في سبيل تحقيق هذه الأهداف، ومن ضمنها قمع الأكراد واضطهادهم بوحشية.. فالكرد من يدفعون ثمن اندفاعاتهما المذهبية والعرقية وأطماعهما التوسعية، وكما كانوا عرضة لعمليات القتل والنهب المنظمة أيام الحروب والصراعات كانوا أيضا ضحايا لاتفاقيات السلام التي تعقد بينهما وهم من يدفعون ثمن فاتورتها الثقيلة، مما يعني أن الأكراد متضررون في الحروب وفي السلام أيضا، مع أنهم لا ناقة لهم في حروبهما العبثية ولا جمل في سلامهما "الهش"، مجرد أمة تعيسة قادها حظها العاثر إلى أن تتواجد بين أمتين متصارعتين، قامت حضارتهما على البطش والنهب والغزو والتوسع على حساب الآخرين، فهما مختلفتان في كل شيء إلا في معاداة الأكراد، فإنهما متفقتان تماما، ونتيجة وفرة الأراضي الكردية الخصبة المترامية الأطراف وعدم بروز قادة كبار يجمعون الأكراد على هدف واحد ويقودونهم إلى الاستقلال والتحرر من قبضة الأعداء التقليديين؛ فإنهم ظلوا يعانون من الاضطهاد والعبودية لحد الآن، وما زالت أراضيهم تتعرض إلى النهب والتقسيم والتهجير على مرأى ومسمع من العالم، ولم تكن مكافأة الأكراد على وقوفهم مع السلطان العثماني (سليم الاول) أمام زحف الشاهنشاه الإيراني (إسماعيل الصفوي) في حرب جالديران عام 1513 والتي انتهت بانتصار العثمانيين الساحق بفضل دعم العشائر الكردية ومساندتهم لهم باعتبارهم من أهل مذهب واحد، وهو المذهب السني، سوى أن قامت الدولتان بعد إبرام اتفاقية سلام بينهما بضم أراضي الأكراد إلى مملكتيهما، وتقسيمها بينهما بكل قسوة، فكان أول تقسيم جائر يتم لبلد إسلامي قبل تقسيمات "سايكس ـ بيكو" الاستعمارية السيئة الصيت للدول الإسلامية بأربعمئة عام.

ولم تختلف الأمور كثيرا بين ما جرى بالأمس وما يجري اليوم، فكما ذاق الأكراد الأمرين على يد العثمانيين والصفويين وتعرضوا بشكل منظم إلى القمع والاضطهاد على يدهما؛ فإنهم اليوم يتعرضون لنفس المعاملة السيئة إن لم تفقها سوءا من قبل أحفادهما وأزلامهما ووكلائهما في المنطقة، فلا يمر يوم دون أن نسمع عن هجوم وحشي أو قصف صاروخي على قراهم أو اجتياح آثم لمدنهم الآمنة بالدبابات والمصفحات العسكرية من قبل الدولتين التركية والإيرانية، ودون أن يتعرض أبناؤهم للقتل والسجن والتهجير والمعاملة اللاإنسانية، لا يمكن لأحد أن يتصور حجم معاناتهم ومقدار عذاباتهم إن لم ير ويعاين حالتهم على الطبيعة ويعيشها، تصور أن أمة كبيرة "كالأمة التركية" تصلي وتحج وتدافع عن "القدس" والأراضي المحتلة بضراوة، وتعادي اليهود "وتدخل معهم في صراع طويل وعريض" ولو بشكل ظاهري، "وتتفاخر بلغتها وتتبارى بثقافتها وتراثها وتعدها من أعظم الثقافات" وتردد كلمات زعيمها كمال أتاتورك العنصرية عندما يقول "لو لم أكن تركيا لوددت أن أكون تركيا"، ومن ثم تحرم ما أحلته لنفسها على أمة أخرى مثلها مسلمة وصحيحة الإسلام، وتحجر عليها التكلم بلغتها الأم وتمنعها من التفاخر بثقافتها وفنونها وتراثها، وتنزل عليها أشد العذاب إن قامت بذلك، والشواهد كثيرة لا تعد ولا تحصى على هذه التصرفات الهمجية التي تفوق أي همجية أخرى لأي قوم أو أمة على امتداد التاريخ، ففي واحدة من هذه الأعمال الوحشية التي دأبت السلطات التركية على ممارستها بحق الأكراد؛ قامت بمعاقبة النائبة الكردية في البرلمان التركي "ليلى زانا" وسجنها لمدة عشرة أعوام لمجرد أنها قامت بوضع العلم الكردي المزركش على رأسها احتفاء بالمناسبة، ومن ثم راحت تؤدي قسمها الدستوري في البرلمان باللغة الكردية باعتبارها نائبة تمثل الأكراد وهذا أمر طبيعي، وبسبب هذه الجريمة النكراء التي لا تغتفر قبعت المسكينة في السجن الانفرادي لمدة عشرة أعوام بالتمام والكمال! دون مراعاة لوضعها كأنثى أو كونها تتمتع بالحصانة الدبلوماسية أو الالتفات إلى أدنى درجات حقوق الإنسان، وليست إيران طبعا بأحسن حالا من تركيا، بل تفوقها قمعا واضطهادا للأكراد، ففي ظل سلطة ولاية الفقيه (الإسلامية!) وقوانينها الطائفية، يتعرض الأكراد لعقوبتين مزدوجتين؛ عقوبة بسبب عرقهم "الكردي" المختلف وأخرى بسبب مذهبهم "السني" المختلف، فأي كردي يتجرأ ويطالب بحقوقه القومية أو يدافع عن مذهبه "السني" ـ من بين 10 ملايين كردي أو أكثر في إيران لا توجد إلا قلة ضئيلة جدا لا تذكر ربما أقل من 1% تدين بالمذهب الشيعي ـ فإن مصيره يكون السجن أو الإعدام، كما حدث للشيخ "ناصر سبحاني" الذي أدين بالتهمتين مرة واحدة وسجن ثم أعدم.. وعندما خير الأكراد في أوائل القرن العشرين بعد تقسيمات سايكس بيكو الاستعمارية لبلدان الشرق الأوسط بين أن يكونوا مع الدولة التركية أو العراقية الناشئة اختاروا العرب العراقيين فورا ودون تردد، نظرا لما ذاقوا من أنواع القمع على يد الأتراك، فانضموا إلى الدولة الجديدة وساهموا بتشكيلها، ولكن لم يمض كثير وقت حتى تبين أن العراقيين لا يختلفون كثيرا عن الأتراك والفرس، إن لم يزيدوا عنهم قمعا واضطهادا، فتعرضوا لحملات منظمة من التعريب والتهجير والقتل، وملأت البلاد بالمقابر الجماعية منهم، وقصفت مدنهم بالأسلحة الكيمياوية، ودمرت أكثر من خمسة آلاف من قراهم الآمنة، وكأنهم استجاروا من الرمضاء بالنار.. وهكذا هو حال الأكراد، أمة مقسمة وأرض منهوبة وحظ عاثر، ولا يلوح في الأفق بصيص أمل، على الأقل في الوقت الحاضر، وقد يطول الانتظار إلى أن يجيء منقذ ينتشلهم من الشتات، وينفض عنهم تعاستهم الأزلية، ويجمعهم على كلمة واحدة ويضعهم على الطريق الصحيح.