يمكن تصور موقف الكندي في السياق العام في عصره، على أنه مواجهة مع أربع جهات رئيسية من أجل تبرير الاشتغال بالفلسفة في الفضاء الثقافي العربي في عصره. فمن جهة علمنا عدم تقبله كعربي داخل المؤسسة الفلسفية. ثانيا صراعه مع المتكلمين من المعتزلة وغيرهم الذي كانوا لا يرون للفلسفة استخداما مستقلا، ويحصرونها في خدمة الدين، ومن جهة أخرى ثالثة؛ كان علماء النحو والبيان العربي يرون في المنطق اليوناني الذي تبناه الكندي خطرا على النحو العربي يجب التصدي له، وفي الختام الجهة الرابعة والأكثر قسوة بعض الفقهاء، الذين كانوا يعدون الاشتغال بالفلسفة كفرا لا مجال للتهاون معه.

من خلال الصراع مع هذه الجهات ظهرت الملامح الخاصة والمميزة لفلسفة الكندي التي جاءت تحت شعار ومظلة التبرير للفلسفة اليونانية ومحاولة إدخالها إلى الثقافة العربية الإسلامية. ومن جهة سياسية يرى الجابري أن فلسفة الكندي جاءت في سياق أيديولوجية الدولة العباسية في وقت المأمون والمعتصم على وجه الخصوص. وهذا التفسير يتسق تماما مع طبيعة الفلسفة التي تبناها الكندي والظروف السياسية التي عاشتها دولة بني العباس في ذلك الوقت، ولكن هذا التفسير لا يعني أن الكندي كان منفذا آليا للطلبات السياسية وهذا ما نحاول الكشف عنه هنا، فالكندي كأحد كبار المثقفين في عصره كان يملك وعيا تجاه قضاياه المعاصرة وهذا ما انعكس على فلسفته كما سنرى. وهنا نصل إلى السؤال المهم وهو كيف برر الكندي الفلسفة اليونانية وسط هذه السياقات المحيطة بها، منافسة بل عداء ورفضا.

لمواجهة الجهة الأولى نجد أن الكندي يروج لدعوى مفادها أن العرب إخوان لليونان وأن يونان أخ لقحطان. ذكر ذلك المسعودي في مروج الذهب ومعادن الجوهر يقول "وقد كان يعقوب بن إسحاق الكندي يذهب في نسب يونان إلى ما ذكرنا من أنه أخٌ لقحطان، ويحتج لذلك بأخبار يذكرها في بدء الأنساب، ويوردها من حديث الآحاد والأفراد، لا من حديث الاستفاضة والكثرة.

وقد رَد عليه أبو العباس عبداللّه بن محمد الناشئ في قصيدة له طويلة، وذكر خَلْطه نسب يونان بقحطان. وكأن الكندي بهذا النسب المفتعل يريد أن يحل أكثر من قضية؛ أولا نفرة العرب من الغريب فإذا أصبح اليونان إخوة للعرب فإن الأخذ منها يصبح مطلوبا وممدوحا لا مذموما ومشكلا. ومن جهة أخرى يقطع الكندي الطريق على من قال إن العرب لا حظ لهم في الفلسفة ولا يصح أن يشتغلوا بها وهذه هي المشكلة التي أوقعته في عزلة داخل المجتمع الفلسفي المعاصر له.

ومن الجهة الأخرى ، جهة صراعه مع المعتزلة، نجد أن الكندي يحاول القيام بمهمة سيتبعه فيها أغلب الفلاسفة المسلمين اللاحقين وهي عملية التقريب بين الفلسفة والدين أو التخلي عن المقولات الفلسفية حين تتعارض مع الدين. نجد هذه العملية واضحة في قوله بحدوث العالم حيث خالف في ذلك أرسطو القائل بقدم العالم وهي المقولة التي تتعارض مع الموقف الديني الذي يتأسس على أن العالم هو نتيجة لعملية خلق إلهية حادثة. ومن هنا يذهب الكثير من الباحثين إلى أن الكندي كان معتزليا في عقيدته. لا يمكن اعتبار الكندي متكلما وإن تبنى وجهات نظر المعتزلة الدينية لأنه كان باستمرار يتبنى منهجا فلسفيا ولا يورد سوى العلل العقلية والرياضية.

من الجهة الثالثة، الجهة التي كانت تنطلق من مقولة الخصوصية اللغوية العربية والتي وُجد تعارض بينها وبين النقل من اليونان وغيرهم فإن الكندي عمل جاهدا على بيان أن الفلسفة ذات طابع إنساني كلي وهي متعلقة بالعقل بوصفه عقلا، ولا تختص بثقافة دون أخرى وهذا ما يجعل من المنطق اليوناني مثلا هو منطق للتفكير بما هو تفكير، يونانيا كان أم عربيا (نجد هذه المواقف في تعريفات الفلسفة الواردة في رسالة الكندي "في حدود الأشياء ورسومها"). ويمكن للدعوى الأولى، دعوى القرابة العربية اليونانية أن تقضي على مقولة الخصوصية أكثر وأكثر. ويمكن لنا اليوم أن نقول إن محاولات الكندي في هذا الخصوص لم تنجح بدليل أن دعوى الخصوصية لا تزال مطروحة وربما بشكل أقوى مما كان عليه في القرون الأولى.

أما من جهة بعض الفقهاء المعادين للفلسفة فإن الكندي قد كشف منذ البداية أن حججهم وإن تغلّفت بالدين، لا يمكن أن تلغي الفلسفة، لأنها حق ـ باعتبار الكندي ـ لا يمكن أن تتعارض مع الدين، وما تعارض معه يتم التخلي عنه كما فعل هو في أكثر من موقف حيث خالف الفلاسفة وتبنى المقولات الدينية. لا يعني هذا عند الكندي أن الدين والفلسفة شيء واحد بل يعني أنهما منهجان يؤديان إلى نتيجة واحدة والفصل بين المناهج مستقر عند الكندي منذ البداية فنقرأ له في كتابه في الفلسفة الأولى هذا التفريق بين المناهج يقول "فينبغي أن نقصد لكل مطلوب ما يجب، ولا نطلب في العلم الرياضي إقناعا، ولا في العالم الإلهي حسا ولا تمثيلا، ولا في أوائل العلم الطبيعي الجوامع الفكرية ولا في البلاغة برهانا، ولا في أوائل البرهان برهانا".( كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى،ص33).

نجد أن موقف الكندي مع الفقهاء أشد صلابة وقوّة فهو لا يدخل معهم في نقاش علمي بقدر ما يشكك في نواياهم ومقاصدهم وهنا نفهم أن الكندي كان مقربا من القيادات السياسية في وقته، المأمون والمعتصم بشكل خاص ونحن نعلم أن لهؤلاء الخلفاء عداوات مشهورة مع الفقهاء الذين كان جلّهم من أهل الحديث والسنة الذين ناصبوا المعتزلة العداء منذ البداية. ولكن الأحوال تتقلب ويعود الفقهاء للفتك بالكندي في عهد الخليفة المتوكل (232-247هـ).