يتعرض المثقفون من مختلف الأطياف والمستويات للكثير من الامتحانات والضغوطات والحسابات، وبهذا تتأرجح الحقيقة بكل مصادرها ومضامينها، فينقسم المثقفون تبعا لذلك-وتحديداً كتاب الرأي والأعمدة الصحفية -إلى نموذجين رئيسيين يُمثلان واقع الكتابة في صحفنا العربية، بل وفي عموم المشهد الثقافي العربي من المحيط إلى الخليج، مع الأخذ بالاعتبار وجود تباين واختلاف بين قطر وآخر. نعم، هناك نماذج أخرى من الكتاب، ولكنها أقل حضوراً وتأثيرا.
النموذج الأول لكتاب الرأي في العالم العربي؛ هو الأكبر حجماً وتواجداً وامتداداً في مشهدنا الثقافي، والكاتب الذي يُمثل هذا النهج يمتلك ــ أو هكذا يزعم ــ مشروعاً ثقافياً أو اجتماعياً أو فكرياً، ويضع لنفسه استراتيجية طويلة الأمد لتمرير أفكاره وأطروحاته، وذلك من أجل تنمية وتطوير مجتمعه بكل تفاصيله ومكوناته.
هذا النموذج من الكتاب، يمتاز بكاريزما ثقافية مرنة ومتكيفة، إضافة إلى قدرته الفائقة على امتصاص الصدمات والصراعات والتحديات، إن كاتبا من هذا النوع، يمكن وصفه بالكاتب التوافقي؛ لأنه لا يميل إلى التصادم والمواجهة والمباشرة، بل هو على العكس تماماً؛ يحمل صورة عامة ورؤية هادئة تؤهله للبروز والديمومة كي يواصل مشواره الثقافي بالنهج والأسلوب والتعاطي الذي يعتقد بأنه الأكثر نفعاً والأنسب تناولاً.
إن صحفنا العربية تغص بالعشرات، بل بالمئات من هذه الشريحة المهمة من كتاب الرأي، وهذا النموذج، رغم كل النجاحات والامتيازات والشهرة التي يحصل عليها، إلا أنه يُتهم عادة بمجموعة متداولة من التهم والتشكيكات والانتقادات، كممارسة التضليل المجتمعي عبر مقالاته وأطروحاته التي تغيب عنها الشفافية والجرأة وتفتقر لسمو الأهداف وعدم استشعار طموحات وتطلعات الإنسان العربي البسيط.
أما النموذج الآخر- وهو الأكثر إثارة ومشاغبة وجدلاً- فهو كاتب المقال الأخير، وهذا ((مصطلح )) أجده مناسباً لهذا النموذج المثير، الذي يتعاطى مع الكتابة بهذا النحو، فهو عادة ما يكتب وفي ذهنه وقناعته ورغبته أن مقاله الذي سيُثير دهشة القراء والمتابعين والمراقبين و"غيرهم" غداً سيكون المقال الأخير. هذه المجازفة، لذة سحرية ملتهبة تشبه رقصة الموت لتلك الفراشة التي يروق لها الاقتراب من النار دون أن تكترث إن احترقت.
كاتب المقال الأخير عادة، لا يتقن الكثير من المهارات والاستعدادات الشخصية والمهنية، كالمحاباة والتنازل والتكيف والاحتواء والتمرير والترحيل والواقعية، والكثير الكثير من مفردات القاموس المعاصر للكتابة الواقعية؛ إنه يكتب رأيه كما يعتقد، دون أن يتأثر أو حتى يكترث لأي اعتبارات أو أصداء أو انعكاسات، وما يهمه فقط، هو أن يترجم أحاسيسه وانفعالاته وقناعاته عبر مقاله، حتى وإن كان الأخير. فهذا لا يهم، فهدفه الوحيد هو الكتابة دون أي تدخل، مهما كان هذا التدخل، لأنه لا يُدخل في حساباته الضيقة وتقديراته الشخصية أي اعتبار للأثر الذي ستتركه تلك المقالات الصادمة والمدهشة، سواء للقارئ أو للجهات المعنية أو للمجتمع، فإنه لا يعبأ كثيراً بكل هذا.
هو باختصار، يكتب كل مرة مقاله الأخير. لأسباب كثيرة، بعضها مهنية أو نوعية أو مزاجية تخضع للكاتب نفسه. الذي يؤمن بأن الكتابة وسيلة تنويرية من أجل تطوير المجتمعات والشعوب، لذا –برأيه-يجب ألا يخضع لأي ضغوطات أو توجيهات أو اعتبارات، بل ولا حتى انتقادات.
هذا النموذج من الكتاب، رغم أنه يحظى بشهرة واسعة وجاذبية طاغية لدى قطاع واسع من القراء، لأنه يُعتبر صوتهم القوي وسلاحهم المؤثر، والذي يحمل في طيات حروفه الملتهبة بعضاً من معاناتهم وتطلعاتهم وطموحاتهم، لكنه ـ للأسف الشديد ـ لا يملك مشروعاً ثابتاً ومستمراً، فهو رغم كل الأضواء التي تُلاحقه في كل محطة يقف عندها، يجد نفسه مضطرا للمغادرة، فقط لأن بوصلته المضطربة توجهه لمكان آخر، وهكذا فهو لا يُجيد الاستقرار أو المهادنة. هو باختصار، لا يملك نفساً عميقاً وطويلاً للوصول إلى غاياته "النبيلة" التي تحتاج إلى الكثير من المهارات والأدوات التي تتسم عادة بالواقعية، لأنه باختصار لا يملكها.
إذن ما بين هذين النموذجين المسيطرين تقريباً على كامل المشهد الثقافي العربي، وتحديداً في واقع الكتابة العربية المعاصرة، وعدم تشكل وتجسد نماذج أخرى من الكتابة أكثر حرفية ومهنية وشفافية وموضوعية، هل نستطيع الإجابة على هذا السؤال الملتبس: لماذا نقرأ المقال الأخير؟