تعيش بعض الشعوب العربية نشوة الانتصارات المتلاحقة على الظلم والاستبداد وحكم الفرد الواحد، وقد نجحت نجاحا كاملا في ثلاث دول، وهذه الدول تخوض الآن تجربة سياسية جديدة وتعيش مرحلة غير مسبوقة في المشاركة السياسية الشعبية، وهذه المشاركة كشفت عن الميول الإسلامية عند تلك الشعوب المتحررة سياسيا، حيث يتضح ذلك من نجاح حزب النهضة في تونس وترحيب الشعب الليبي بإعلان مصطفى عبد الجليل أن ليبيا دولة تعتبر الإسلام المصدر الأول للتشريع، وكذلك ما يتوقعه كثيرون من فوز حزب الإخوان في مصر أو على أقل تقدير أن يلعب دورا سياسيا ذا ثقل أكبر في صناعة القرار.
وما يمكن قوله أن هذه الأحزاب الإسلامية بعد تمكنها من السلطة ستكون بصدد مسؤولية كبرى وهي إنجاح دخول الشريعة إلى السياسة أو الحكم أو إفشال ذلك، وفي تقديري أنها تحتاج إلى مهمتين رئيسيتين يجب أن تضطلع بهما وهما ذات طبيعة فكرية أكثر من كونهما سياسية حتى يتحقق النجاح المرجو إضافة لأدبيات قراءة النص الحديثة وفهمه فهما حقيقيا وتجاوز التراث، وهاتان المهمتان هما:
أولا: الحذر من خلط جزئيات السياسة بالدين وليس السياسة فحسب بل حتى الاقتصاد والاجتماع ولكن السياسة تأتي في المقام الأول، فإنها إن اختلطت بالدين فسدا جميعهما وصعب الفرز بينهما بعد ذلك وتحمل علماء الدين ما لا يحتملون وظهرت الدولة الثيوقراطية، ولم تفلح تلك الدول التي خلطت بينهما لا في الدين ولا في السياسة، وما كان مترددا بين السياسة والدين فيغلب جانب السياسة به، فلأن يخطئ السياسي بإبعاد الدين عن السياسة خير من أن يخطئ بإدخال الدين في السياسة فالأولى معصية والثانية تشريع.
ثانيا: الابتعاد عن القرارات الصادمة والتدرج في تطبيق الشريعة والعمل بمبدأ الأولويات، وقد أظهر حزب النهضة شيئا من ذلك ببعض القرارات التي اتخذها مؤخرا، متجنبا التصادم مع الأطياف والتيارات الأخرى، وإنما هناك أولويات وأمور توضع في الحسبان، فالقرارات المتدرجة هي ما يميز الحكومات الرشيدة عن غيرها.
فالتطبيق الكامل والمفاجئ والسريع لما لا يعلمه الناس ولم يعتادوه بلا توطئة أو تمهيد قد يضر العمل الإسلامي، ولو نظرنا لفلسفة التدرج في تحريم الخمر على ثلاث مراحل لوجدنا أن سبب ذلك هو عدم تقبل المسلمين في صدر الإسلام لفجائية التحريم فجاء التدرج، وإذا كان هذا مع المولى عز وجل فكيف مع البشر فلا يمكن إغلاق المحلات التي تبيع المحرمات إذا كانت هناك تيارات قوية داخلية تمانع في البداية، وإنما لا بد من وضع خطة للتدرج في القضاء عليها.
إن هناك من يتربص بالعمل الإسلامي المنفتح وفوز حزب النهضة الإسلامي يحرج الرافضين للشريعة، ويحرج أيضا المتشددين فيها فهو سيثبت فشل أطروحة كلا الصنفين وهذا هو شأن المناهج الوسطية ولذا سيحارب منهما، وقد بدأ كل من الصنفين بإظهار عيوب الحزب كل فيما يخصه، فالرافضون أظهروا أنه قامع للحريات والأقليات وأنه غطاء لحزب الإخوان المتشدد، وأن التساهل ما هو إلا وجه مؤقت حتى يتمكن من السلطة ثم تنقلب تونس إلى دولة طالبانية.
والصنف المتشدد نظر إليه على أنه حزب علماني بواجهة إسلامية، وأن تلك القرارات التي اتخذها كالإبقاء على حظر تعدد الزوجات بداية للعمل بالفكر العلماني وأنه لا فرق بينه وبين نظام زين العابدين إلا في قلة القمع وتخفيفه، ولذا بدأ هذا التيار في إزالة مسمى الإسلامية عنه ووصفه بالعلمانية وأنهم مفرطون في كثير من أحكام الشريعة، مع أنهم في حقيقتهم فرطوا فيما يتشدد به أولئك وما ينسبونه للشريعة ولم يفرطوا في الشريعة، أو أنهم تريثوا في تطبيق جزئيات لا يمثل العمل بها ـ بشكل عاجل وسريع ـ الالتزام بالإسلام فالإسلام قد يبرز ويتكامل بدونها مؤقتا.
فالرافضون متمحورون حول جزئيات يرونها هي الدين وما عداها ولو كانت كليات في الدين فلا قيمة لها حتى ولو كابد الحزب لتطبيقها بعد أن حاربها النظام السابق، فحقيقة الأمر لا يعدو أن يكون تنافسا بين التيارات الإسلامية فكل تيار ديني يحرص على أن يمثله نظام سياسي يثبت جدارته، لأن التطبيق السياسي للنظام الإسلامي هو أكبر دليل على نجاح المشروع لأنه ينتقل به من التنظير على الورق إلى العمل على أرض الواقع.
وفي حال نجاح التيارات المعتدلة فهذا نذير خطر على تلك التنظيرات الراديكالية ولذا قد يحاولون وأد تلك النجاحات السياسية بطريقة مشابهة لفلول النظام السابق خاصة بعد أن فشلت دولتهم طالبان التي تسببت في نكسة كبرى للتنظير الراديكالي التي كان بإمكانها أن تستمر لولا تصرفات ساستها وسياساتهم التصادمية وعدم إدراكهم للأولويات.