من الملاحظ أن أسعار المواد الغذائية تتذبذب صعوداً وهبوطاً منذ نحو أربع سنوات، الأمر الذي يؤثر سلباً على كل من المستهلكين والمنتجين في آن معاً. تغيير أسعار البترول، وكميات غلال المحاصيل، ومستويات المخزون الغذائي، وأسعار صرف العملات جميعها عوامل تؤثر على أسعار المواد الغذائية ارتفاعاً وانخفاضاً، لكن السياسات التجارية وعدم وجود بيانات حديثة يمكن الوثوق بها تؤدي أيضاً إلى حدوث تقلُّب الأسعار. صانعو السياسة بدؤوا ينتبهون إلى هذا الأمر، ولعل من أبرز الأمثلة على هذا قرار الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي جعل تقلُّب الأسعار من الأولويات في جدول أعمال قمة الدول العشرين (G20) التي ترأسها فرنسا هذا العام، لكن الحكومات في كل من الدول النامية والمتقدمة يجب أن تبذل جهوداً أكبر لتخفيف كل سبب من هذه الأسباب والمساعدة على ضمان استقرار طويل الأمد في الأسعار. وقد نشرت مؤسسة "كارنيجي" للأبحاث في يناير المنصرم تقريراً كتبه حافظ غانم، نائب المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة (FAO)، عن تقلُّب أسعار الغذاء وكيفية الحد منه.
تقُّلبات أسعار المواد الغذائية
تظهر البيانات أن أسعار المواد الغذائية تذبذبت كثيراً خلال السنوات الأربع الأخيرة، فقد ارتفع المؤشِّر من 122 في عام 2006 إلى 214 في يونيو 2008، بعد ذلك انخفض المؤشِّر بسرعة في النصف الثاني من عام 2008 ليصل إلى 140 في مارس 2009. في النصف الأخير من عام 2010، عاد المؤشِّر للارتفاع بشكل ملحوظ، خاصة بعد الجفاف الشديد الذي أصاب روسيا، ووصل إلى 215 في ديسمبر.
وما يثير القلق بشكل أكبر هو أن الأسعار ضمنية التقلُّب – التي تُمثل توقُّعات السوق حول مدى تحرك السعر في المستقبل ولا يمكن الاستدلال عليها إلا من أسعار عقود المشتقات- مستمرة بالازدياد منذ منتصف التسعينيات.
لماذا يجب الاهتمام بهذه الظاهرة؟
تذبذب الأسعار، أو التقلُّبات الطبيعية، من الميزات الشائعة في الأسواق التنافسية. وتوفر التقلبات مؤشرات هامة للمنتجين والمستهلكين على حد سواء، لكن فعالية هذا النظام تنهار عندما تسبب الصدمات الاقتصادية تغيير الأسعار بطرق غير متوقَّعة بشكل متصاعد. وعندما تتجاوز الصدمات مستوى معيَّنا، يصبح نظام الأسعار بلا معنى، وغالباً ما تفشل آليات التأقلم وفرضيات السياسة التقليدية.
بالإضافة إلى ذلك فإن التقلبات الحادة تؤذي المستهلكين الفقراء. والتغييرات الكبيرة غير المتوقعة في أسعار المواد الغذائية تعرِّض الأمن الغذائي للعائلات الفقيرة في الدول النامية للخطر، حيث إن هذه العائلات تنفق نحو 70% من دخلها على الغذاء. ونتيجة لأزمة أسعار الغذاء العالمية في 2007-2008، على سبيل المثال، تعرَّض ما يقارب 80 مليون شخص إضافي لسوء التغذية، وذلك بحسب تقديرات منظمة الأغذية والزراعة العالمية.
كما تؤذي التقلُّبات الحادة المنتجين أيضاً، فعندما يتزايد عدم اليقين حول الأسعار، يميل المزارعون الفقراء إلى تجنُّب المغامرة وتقليص استثمارهم في الزراعة وإلى استخدام مدخلات أقل، مما يجعلهم عُرضة للبقاء فقراء.
إن الحاجة إلى تقليص تقلُّب الأسعار أصبحت أكثر إلحاحاً في الوقت الذي أصبحت التجارة أكثر ضعفاً كأداة للأمن الغذائي. وتحدُّ الإعانات الغذائية في الدول الغنية من النمو الزراعي في الدول النامية، وتترك هذه الدول عُرضة لصدمات الأسعار الغذائية، كما تسبب القيود على التصدير زيادة الأسعار العالمية وتهدد الأمن الغذائي لشعوب العالم الأكثر فقراً.
أسباب زيادة تقلُّب الأسعار
تُبيِّن دراسات منظمة الأغذية والزراعة العالمية أن تقلُّب الأسعار في أربعة متغيِّرات –أسعار البترول، وغلال المحاصيل، ومستويات المخزون الغذائي، وأسعار الصرف- يزيد بشكل عام تذبذبات أسعار الغذاء.
أولاً، تقلُّبات أسعار البترول –التي غالباً ما تكون مرتفعة- تتم ترجمتها إلى تقلُّبات في أسعار الغذاء بسبب تفاوت تكاليف النقل وأسعار الأسمدة.
ثانياً، حيث إن الطلب على الغذاء غير مرن، فإن تغييرات طفيفة في الإمداد يمكن أن تقود إلى تغييرات كبيرة في الأسعار، مما يعني أن تقلُّبات غلال المحاصيل، حتى لو كانت تقلُّبات طفيفة، يمكن أن يكون لها آثار كبيرة على تذبذبات أسعار الغذاء. ودور تقلُّبات غلال المحاصيل لا يمكن إلا أن يتزايد مع تقلُّبات الطقس الحادة التي أصبحت أكثر شيوعاً.
ثالثاً، تقلُّبات أسعار المواد الغذائية ترتبط عكسياً مع حجم المخزونات الغذائية، فكلما انخفضت المخزونات، ارتفعت تقلبات الأسعار. وقد قام القطاعان الخاص والعام بخفض المخزونات الغذائية خلال السنوات الأخيرة، لكن هذا التوجُّه قد يتَّجه بشكل عكسي في الوقت الذي تراجع فيه الدول سياسات احتياطياتها رداً على تقلُّبات الأسعار الأخيرة.
أخيراً، التغييرات في أسعار الصرف، خاصة في الدول الرئيسة المصدرة، تترجم إلى تغييرات في أسعار الغذاء العالمية. وهكذا، في الوقت الذي تقود فيه عوامل الاقتصاد الكلي إلى أسعار صرف أكثر تقلُّباً، فإن تقلُّب أسعار الغذاء يتزايد أيضاً.
في اجتماع غير عادي تلا موجة الجفاف في روسيا، أشارت المجموعة الحكومية الدولية حول الحبوب والرز (IGGR) إلى سبب إضافي لتقلُّب الأسعار: عدم وجود معلومات حديثة عن العرض والطلب، والمخزونات، وإمكانية التصدير. ويقود نقص المعلومات الدول عادة إلى اتخاذ قرارات سيئة، مثل الشراء بشكل اعتباطي رداً على ارتفاع مؤقت في الأسعار، وهذه القرارات تقود إلى ارتفاع الأسعار بشكل أكبر.
دور المضاربين في زيادة تقلبات أسعار الغذاء يبقى مثيراً للجدل. وقاد تحرير السوق والتحرير المالي إلى زيادة سريعة في حجم التعاملات في تبادل السلع، وبالتالي يمكن القول إن زيادة المضاربة تساهم في ارتفاع تقلبات أسعار المواد الغذائية.
من ناحية أخرى، ساهمت عوامل حقيقية مثل انخفاض الإنتاج في عدد من أهم الدول المصدرة في حدوث آخر جولتين من التقلُّبات في 2007-2008 و2010. علاوة على ذلك، تلعب الأسواق المستقبلية، حيث يعمد المضاربون إلى العمل، دوراً اجتماعياً هاماً من خلال توفير السيولة، مما يدل على أن المبالغة في وضع الأنظمة يمكن أن تؤذي الأسواق الغذائية بشكل أكبر.
ما الذي يمكن عمله؟
العودة إلى إدارة السوق، من خلال الحفاظ على مخزونات احتياطية على سبيل المثال، ليست وسيلة واقعية. عملاء القطاع الخاص يميلون إلى مواجهة مثل هذه التدخلات بصورة تؤدي إلى فشلها، لهذا، هناك حاجة إلى طرق أكثر واقعية للحد من التقلبات. وهذه الطرق يمكن تلخيصها فيما يلي:
• الاستثمار في زيادة الغلال: لقد تعرضت الزراعة للإهمال منذ فترة طويلة، خاصة في الدول النامية، ولذا يجب تخصيص مزيد من الاستثمار، خاصة في الأبحاث والتنمية والبنية التحتية التي تشجع على الري وكذلك على المحاصيل المقاومة للجفاف.
• سياسات التجارة: يجب مراجعة سياسات التجارة الحالية، خاصة الدعم الزراعي في الدول الغنية والقيود على الصادرات خلال الأزمات، وذلك بهدف الحد من آثار تقلبات أسعار المواد الغذائية. وفي هذا الإطار، من المهم استكمال جولة المحادثات التي بدأت في الدوحة حتى يمكن تقليص السياسات المشوِّهة للتجارة، وربما وضع قوانين أكثر صرامة تتعلق بقيود التصدير.
• زيادة شفافية السوق: يجب على منظمة الأغذية والزراعة العالمية أن تكثِّف جهودها في جمع وتوزيع المعلومات. ويجب أن تركِّز الجهود على المعلومات المتعلقة بالسوق الحقيقية وعلى العمليات المالية ذات الصلة.
• مراجعة سياسات المخزونات: يجب الحفاظ على مخزونات الطوارئ من المواد الغذائية، أو الاحتياطيات الإستراتيجية بالمستويات الوطنية أو الإقليمية، حتى إن هناك دعوات لتأسيس احتياطيات طوارئ عالمية.
• أدوات التمويل: يجب جعل جهات التمويل الحالية، مثل المؤسسات التابعة لصندوق النقد الـدولي، أكثـر مرونـة وفائدة للدول النامية خلال الأزمات. ويجب أن تعمل هذه المؤسسات على توفـير تمويل التصدير لتخفيف قيود القروض بحيث يتم تسهيل تعامل مستوردي المواد الغذائية مع آثار تقلبات أسعار المواد الغذائية.
• تبادل السلع: ينبغي أيضاً مراجعة الأطر التنظيمية التي تحكُم تبادل السلع لتقليص سلوك المضاربة والحد من التقلُّبات، ولكن يجب تجنب المبالغة في وضع الأنظمة، لأنها يمكن أن تحد من قُدرة السوق على اكتشاف الأسعار وتوفير السيولة.
إن زيادة تقلُّبات الأسعار هي نتيجة لإهمال الزراعة على مدى العقود الثلاثة الماضية. وطالما أن الطلب على الغذاء سوف يستمر في الارتفاع بسرعة أكبر من نمو زيادة الغلال، فستبقى الأسواق تعاني من النقص وتبقى الأسعار مرتفعة ومتقلبة، لذلك فإن الحل الواقعي الوحيد على المدى البعيد للتقلُّبات الحادة هو في زيادة الاستثمار في الزراعة.