يأبى القلمُ أن ينعى ولا سلطانَ لي عليه إذا ما تعلق الأمر بسلطان.. كيف لا وقد عاهده على أن يحيا معه ويموت معه.. مات سلطان ومات القلم.
ما عساه أن يكتب وقد عرف سلطانَ قبل أن يشبّ عن الطوق فشبّ معه، ونشأ في كنفِ شمائله وترعرع معه، وسار في ركْبِ قوافله وأناخ معه، وساسَ خيول مناقبه وأسرج معه، وعادَ جراح مرضاه وضَمّد معه، وسَجّلَ حاجة ضعفائه وأحنى معه، وسَبَحَ في بحر أصدافه وغاص معه.
سلطان.. أفبَعْدَ كل هذا وغيره مما لم أحط به علماً من كريم عطائك وغزير إحسانك، أيجرؤ القلمُ أن يرثيك ولمّا يفق بعد من هول ما سمع؟!
تالله ما مات سلطان ما بقيت ينابيعه تتدفق بين يدي الفقير والضعيف والمريض، والمحتاج والمسافر والمقطوع والمقيم والمواطِن.. سلطانُ الرحمةِ يعرفُه الناس.. سلطانُ الخير أريج الأنفاس.. سلطانُ الضعفاءِ رهيفُ الإحساس.. سلطانُ المجدِ أصيلُ الأجناس.
سلطانٌ حيٌّ يعيش في عقول الأمم، ومشاعر الشعوب، ووجدانات الخلائق، وأفئدة البشر.. فإنْ قلتم: إن سلطانَ قد مات، فأقول: كيف ودَمه يجري في أوردة كل الأجساد، وشرايين كل الوطن.
كيف لك أن تنعيه يا قلم وأنت تراه في قلوب كل الأطفال، وعيون كل المساكين، وعواطف كل المحرومين.. يواسي هذا ويمسح دموع ذاك، يتلمس حاجة هذا ويقضي سُؤْلَ ذاك.. ما عاش سلطان يوماً لنفسه.. سلطان عاش لكل الناس.
سلطانُ الصقرُ، أمضى سني عمره يذود عن الحياض، ويدافع عن التراب متنقلاً بين صفوف الجند، وسرايا الرجال، يشد العزائم ويستحث الهمم.. سلطانُ الفهدُ، أفنى جُلّ حياته يجول الصحارى والقفار، يطوف الجزر والبحار، يصعد الجبال ويحطم الأوكار.. ما مات سلطان وهؤلاء الأبطال من صُنع مدرسة يديه، وهذه النسور تنقضُّ كبارقِ عينيه، وتلك الحدود الآمنة من رسم كفيه.
سلطان لم يمت.. سلطان غادرنا لينال أجر العاملين المحسنين الصادقين الصالحين.. قال تعالى: "ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا".