يوم الثلاثاء الفائت، وارينا الثرى جسد أمير الخير والعطاء الطاهر، صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز، ولكن روحه الخيرة أبت على الدفن، وستظل أبية صامدة شامخة إن شاء الله، وقد تدفن روحه أجسادنا عندما يحين وقت رحيلنا، وتظل تنعم بالعطاء، حيث هي حية تتقبل الدعاء لها وتزداد حيوية وحبوراً. فهذه طبيعة أرواح الخيرين تأبى على الموت ناهيك على الدفن، ولو أشبعناها نعياً ورثاءً. فالروح الخيرة، التي غادرنا جسدها، هي الراثي لنا، ونحن المرثيون منها، ولو ظننا عكس ذلك. لم يتول سلطان الخير عرشا رسميا يزول منه أو هو يزول عنه، ولكنه اعتلى عرشا أبديا، لا يزول عنه ولا يزول هو منه، إنه عرش القلوب، عرش قلوب كل الذين تنعموا وما زالوا يتنعمون وسيتنعمون بخيراته الجليلة وهباته السخية، وعطاءاته الكريمة التي بذلها خلال حياته التي قضاها بالبذل والعطاء.
نحن عندما نرثي سلطان الخير، بعد رحيله عنا، في الحقيقة نرثي أنفسنا، لا نرثيه، حيث فقدنا ينبوعا لنا، متدفقا علينا لا ينقطع من الخير الزلال والحب الحلال. من منا لم تطله جداول ينبوع الخير سلطان؟ فمن لم تطله منا، فقد طالت من يحب، وقد يطوله هو، من حيث لا يدري، حيث في كل منطقة من مناطقنا ومدينة من مدننا يوجد ينبوع سلطاني ما زال يتدفق عطاء خير سلطاني، حتى بعد رحيله. فالأرواح تزول مع زوال أجسادها، إلا أرواح الخيرين، فهي تبقى متواجدة حية بعد رحيل أجسادهم. مساكين نحن من نموت وتموت أرواحنا مع أجسادنا، لعدم وجود خير متوفر بين أيادينا لنبذله في سبيل الخير ومنفعة الناس. وتعس هو من يموت وتموت روحه معه وقد أتاح الله لروحه الفرصة لتبقى، حيث أنعم الله عليه من خيراته، ولم يبذل منها شيئا يذكر في سبيل الخير ونفع الناس بعد رحيل جسده.
ينبوع الخير الجاري هو الصدقة الجارية التي أكد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرنا بأنها السبيل الوحيد الذي من خلاله لا ينقطع عمل المرء، بعد وفاته، أي كأنه باق حي، يسعى بين الناس مع خيره. إذاً فمن يرثي من، نحن نرثيه أم هو الذي ما زال حياً يرثينا، مع كون جسده غادرنا، وأجسادنا لم تغادر بعد.
الخير طبع وليس تطبعا، يولد حب الخير مع ولادة الإنسان، ليتدفق الخير منه، كما تتدفق الأنهار الجارية، لتروي الناس والحيوانات والأشجار من حولها. وذلك كما نهر الخير السلطاني، الذي سقى البشر والحيوان والشجر. فسلطان الخير هو أول من رعى من خلال مد يديه الحانيتين حتى لرعاية الحيوان والشجر في البراري الشاسعة والقفار البعيدة، فأنشأ ورعى المحميات البرية في المملكة، التي بدأت تحمي الحياة الفطرية من عبث العابثين، والتي كادت تدمر بالكامل مع ما دمر من بيئتنا وحياتنا الفطرية بسبب غياب الحس الخيري والوطني والإنساني المتحضر. إن من أنعم الله عليهم بروح الخير الأصلية، لا الدعية، هم الذين يمتدون لكل مناحي الخير وسبل رعايته، في سبيل منفعة البشر والحيوان والشجر. كم فقدناك وسنفقدك أكثر يا سلطان الخير وأمير العطاء، نحن البشر والحيوان معنا والشجر وحتى الحجر، فلا نامت أعين البخلاء ولا نامت أعين من هم بالخير جهلاء.
للأسف الشديد، لم يسعدني حظي بلقاء سلطان الخير، لا من بعيد ولا من قريب، ولكن من حسن حظي، أنني كنت أشم رائحة خيره العطرة الزكية في كل صرح أزوره من صروح صحية وبيئية وعلمية وتعليمية أنشأها وشيدها بخير ينبوعه المتدفق. وكلما تزور صرحاً من صروح سلطان الخيرية وتطلع على تفاصيل الصرح وعملية تمويله وإدارته؛ لا تملك إلا أن تزداد حباً للرجل، إن كنت ممن يمتلك قلبا يحب الخير ويقدره حق قدره، وإن لم تزدد حباً له حينها؛ فابحث لك عن قلب إنسان، فما بداخل جوفك ليس سوى صوان. وإن لم تشاهد خيره المتدفق على من هم بحاجته وتقدره حق قدره؛ فابحث لك عن عيني إنسان، ترسل ما تراه، لعقلك والوجدان.
زرت يوماً أحد المراكز الصحية التأهيلية، التي شيدها سلطان الخير، وتحدث لي أحد مسؤولي إدارة المركز عن تفاصيل تأسيسه وإدارته، فحدثني بالعجب العجاب. حيث ذكر لي بأنه عندما تم افتتاح المركز، تمت دعوة أثرياء ممن تجاوزت ثرواتهم عشرات المليارات من الدولارات، من أجل أن يساهموا في دعم هذا المركز الوطني الإنساني الخيري الحضاري والصرف عليه. وكانت النتيجة بأنهم فقط، سجلوا أسماءهم وكلماتهم في سجل الزيارات وانصرفوا. وليتهم انصرفوا بخيرهم وشرهم، ولكن الكارثة، أنهم صاروا يتصلون بالمركز من وقت لآخر ليتوسطوا لدخول أشخاص للمركز، حالاتهم الصحية لا تتطلب خدمات المركز، حيث هي للحالات الحرجة.
هنا لا تملك إلا أن تحب سلطان الخير، غصبا عنك، لأنك ستراه يبذل الخير لأنه رجل خير يحب الخير للناس.
إذاً كم نحن بحاجة لروح الخير السلطانية الطاهرة الزكية التي لم نفقدها ولله الحمد، لتسعى بيننا، لتحثنا على عمل الخير والسعي الحثيث من أجله. ففعل الخير والسعي إليه هو جزء لا يتجزأ من تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف، كما أن الأوقاف كانت جزءا من ثقافتنا الاجتماعية؛ إلا أنها أخذت تذبل وتكاد تتلاشى كل ما ازداد عدد الأثرياء منا، لا أعلم ما السبب، ولكنني أعلم بالخطب. من يرد حقاً أن يرثي سلطان؛ فليتمثل بروحه الخيرة، التي ما زالت تسعى بيننا، بكل حب ووفاء للوطن ولمحتاجيه. كم نحن بحاجة لتمثل ظاهرة الخير السلطانية، التي من أهم أسسها، ليس البحث عن المحتاجين فقط؛ ولكن بناء وتشييد ما يحتاجه المحتاجون منا، من مراكز صحية وتعليمية وتدريبية وسكنية وما شابهها من أعمال خيرية، ودعمها بالأوقاف الخيرية التي تدر عليها، إلى ما شاء الله؛ ليسعى إليها المحتاج من الآن، والذين سيحتاجون منا غداً وبعد غد، من دون بحث عنها أو عناء، أو حتى خجل من طلبها.
فرحم الله صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود، وأسكنه فسيح جناته وأنزله فردوسه الأعلى، حيث لم يكن يحب الخير فقط، ولم يكن يداوم على فعل الخير فقط، ولم يتحول لظاهرة خيرية فقط؛ ولكن كاد يكون الخير كله وكله الخير.