كشفت كارثة جدة التي بدأت مع هطول كميات كبيرة من الأمطار ظهر يوم الأربعاء 26 يناير الماضي وجها ناصعاً من وجوه التكافل الاجتماعي بين سكانها، حين هرع آلاف الأشخاص إلى تقديم المساعدات والمشاركة في أعمال الإغاثة ومد يد العون إلى المتضررين والمحتاجين.
وإذا كان ذلك يبدو طبيعياً في جميع المجتمعات الإنسانية في مواجهة غضب الطبيعة، إلاّ أن سيول جدة الجارفة في ذلك اليوم كشفت عن روح عالية من التفهم والتسامح والأثرة ، يفتقدها الكثير من الناس في حياتهم اليومية.
يروي المهندس جمال برهان، وهو من مؤسسي مجموعة أصدقاء جدة، أنه لاحظ خلال الأزمة مدى التزام الناس بالتعليمات واستعدادهم للعطاء من دون حدود، إلى جانب أن آلاف الشبان والشابات نزلوا إلى الشوارع واتصلوا بالمجموعات والجمعيات مطالبين بضمهم إلى قوائم المتطوعين، ولاحظ كيف أن شابات بدأن بالبكاء حين قيل لهن إن المهام مناطة بالرجال.
المشكلة التي واجهتنا - يقول برهان، وهو الذي أسس مجموعة أخرى باسم "عيون جدة" - أن هناك فقداناً للتنظيم، وعدم اهتمام بالآثار النفسية التي ترتبت على ماحدث، وهذا يعني أننا بحاجة إلى فهم أكثر لطبيعة العمل أثناء مواجهة الكوارث.
ويصف عضو اللجنة العربية لحقوق الإنسان المهندس عبدالله سابق مجتمع جدة بأنه أظهر قدراً كبيرا من التكاتف، فقد رأيت كيف كان الناس يؤثرون الآخرين على أنفسهم، ولمست كيف قام آخرون بفتح منازلهم لاستضافة المتضررين أو إيواء المحتاجين.
هذه التجربة، يقول المهندس سابق: على الرغم مما كان فيها من إيجابيات أعطت انطباعاً بأننا بحاجة إلى التثقيف في مواجهة الكوارث من أي نوع، وأعتقد أن من مسؤولية الجمعيات الخيرية تثقيف المجتمع ليكون على استعداد لمواجهة مثل هذه الحالات، لأننا وجدنا العديد من السلبيات أثناء العمل الميداني، وكان يمكن تلافيها لو كانت هناك ثقافة كافية لهذه المواجهة، وأن الشؤون الاجتماعية والعمل عليهما أن تعطيا الجمعيات ليس استقلالية تامة ولكن الثقة والاحترام، وهذا يعطيها قدرة أكبرعلى التصرف وتأهيل المجتمع ثقافياً.
ويرى الناشط الاجتماعي مهند الخياط أن المجتمع بحاجة إلى مأسسة العمل التطوعي لمواجهة الكوارث، فما حدث من اندفاع للمساعدة كان شيئاً إيجابياً، ولكنه كان يمكن أن يكون أكثر إيجابية لو كان في إطار منتظم ذي طبيعة مؤسساتية، ومن المؤكد أن استحداث إدارة طوارئ مدنية سيكون عاملاً مهماً في المستقبل لمواجهة أية كارثة محتملة.
لكن هل للتربية الدينية دور في التعامل مع كارثة من النوع الذي حدث في جدة؟، يقول رئيس جمعية تحفيظ القرآن المهندس عبدالعزيز حنفي: من المؤكد أن الإنسان المؤمن يدرك أن الأقدار لا تُرَد وهذا يخفف من مصاب الناس ويدفعهم للعمل بروح إيجابية، لكن هذا لا يعني أن نتكل على المصادفات والاجتهاد في مواجة الكوارث، بل يجب العمل على رفع مستوى ثقافة المجتمع في مواجهة الكارثة مهماً تكن، لذلك لم نجد في تحفيظ القرآن مشكلة في تهيئة المتطوعين منذ اللحظات الأولى حيث قمنا بتشكيل خمس فرق عدد كل فرقة ما بين 150 إلى 200 متطوع للمساهمة في أعمال الإغاثة والتأهيل، وهذا ما يدفعنا إلى اعتبار أن تنظيم العمل التطوعي، لا يقتصر فقط على تسجيل أعداد المتطوعين بل تثقيفهم على عمليات المساعدة والإنقاذ والتأهيل النفسي، وقبل ذلك تنظيمهم في فرق ومجموعات تعرف كل منها مهمتها والمكان الذي ستعمل فيه.
وقد يعبر سلوك المواطن عاصم جان عن أسس ثقافية في مواجهة الكارثة، حين نشر نداء على الإنترنت وضع فيه عدداً من أرقام الهواتف طالباً من كل من يحتاج المساعدة الاتصال بهذه الأرقام، كما طلب ممن يصله النداء ممن يملكون سيارات قادرة على خوض غمار السيول وإنقاذ الناس الاتصال على الأرقام.
وماذا كانت النتيجة؟، يقول عاصم جان حين حدثت الكارثة كنت في مكتب الشركة التي أعمل فيها، وخطرت فكرة المساعدة فجأة حين شاهدت كمية المياه في الشوارع، فوضعت النداء على شبكة الإنترنت، ولم تمر نصف ساعة حتى انهالت عليّ المكالمات من أشخاص يقودون سيارات قادرة على العمل وسط السيول ومن أفراد وعائلات تطلب المساعدة، وهكذا تمكنا خلال اليوم الأول من إنقاذ 30 أسرة، ووفرنا 30 سيارة للمساعدة والإنقاذ، وقمنا بفتح أبواب الشركة للأسر المحتاجة وقدمنا لهم وجبات غذائية وأغطية وفرشاً للنوم.
تعكس تجربة عاصم جان طبيعة الشعور بالمسؤولية أمام أي حدث، ومجمل القول إنه بقدر ما يرتقي الناس بثقافتهم بقـدر ما استشعروا حس الواجب والمسؤولية، فأمام الكارثة، أي كـارثة تتجلى ثقافة المجتمعات وتبرز خصائصها، كما يقول المهندس عبدالعزيز حنفي.