لم تكتف الجمهورية التونسية بتسجيل أول ثورة عربية ضد الحكم الفردي التسلطي، بل استطاعت أن تسجل أيضاً أول حالة استقرار سياسي في وقت قياسي بعد الثورة، حيث انتقلت رئاسة الجمهورية بعد الثورة بشكل سلس - وفقاً لنصّ الدستور- إلى فؤاد المبزّع رئيس البرلمان وتم تشكيل حكومة انتقالية؛ وبالتالي عودة الحياة السياسية الطبيعية إلى الحياة العامة، وقد شارك الشعب التونسي بكثافة في الانتخابات العامة للمجلس التأسيسي، هو مجلس تأسيسي يضم 217 عضوًا يتم انتخابهم من قبل المواطنين المقيمين داخل وخارج تونس، وسوف يضع هذا المجلس دستوراً جديداً للبلاد.

وكما كان متوقعا فقد تصدر حزب "النهضة الإسلامي" قائمة الأحزاب الفائزة يليه حزبا "المؤتمر من أجل الجمهورية" و"التكتل من أجل العمل والحريات". وعلى الرغم من تخوف البعض من وصول حزب إسلامي إلى سدة السلطة إلا أن منطق الديمقراطية يحتم قبول جميع الأحزاب بمختلف توجهاتها، ضمن ما لديها من حقوق كفلها الدستور، وخاصة إذا ما قال الشعب كلمته عبر صناديق الاقتراع.. فهي بالتأكيد كلمة فصل!

إلا أن الأهم هو عدم الانقلاب على الديمقراطية والتضييق على الحريات، سواء باسم الشريعة أو العروبة أو العدالة أو أي مبرر غير مقبول مدنياً. وعلى المستوى الشخصي تابعت تصريحات مسؤولي حزب النهضة قبل الانتخابات وبعدها، فوجدتها لا تدعو لأي قلق؛ نظراً لتكرار الحزب التزام الديمقراطية والتأكيد على أهمية الوحدة الوطنية والحفاظ على مكتسبات الثورة، وهذا الأمر يفترض أن يترجم عملياً على أرض الواقع، وخاصة أن "النهضة" بحاجة إلى التحالف مع أحزاب تختلف أيديولوجياً معه لاستكمال العملية السياسية.. وهذه هي طبيعة السياسة.

ويعود الإقبال الشعبي على التصويت لحزب النهضة إلى طبيعة المجتمع العربي التونسي الذي يُعتبر الدين الإسلامي مكوناً ثقافياً واجتماعياً رئيساً بالنسبة له، بالإضافة إلى الخطاب السياسي الإسلامي الذي يعتمده حزب النهضة وأمثاله الذي يعتمد على المشاعر الدينية، كما حصل في تركيا إبان صعود حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى السلطة عام 2002، والذي كان قد أحدث توجساً سياسياً نتيجة توجهاته الإسلامية، وعلى الرغم من الحساسية السياسية بينه وبين المؤسسة العسكرية من جهة وبينه وبين الأحزاب العلمانية من جهة أخرى، إلا أنه أثبت أنه حزب معتدل، وقد حظي بشعبية كبيرة، لا لأنه إسلامي، بل لأنه اعتمد على الإصلاح في كافة أركان الدولة، وبني الاقتصاد التركي من جديد. والاقتصاد بالنسبة للشعوب أمر مهم يأتي في مقدمة الأولويات. قد أصبح النموذج التركي نموذجاً سياسياً ناجحاً يحتذى به بالنسبة للعالم العربي والإسلامي،وهذا ما راهنت عليه أمريكا ودعمته لإثبات أنها لا تعارض قيام حكومات ذات توجهات إسلامية شرط ألا تكون متطرفة. إلا أن هذا الأمر لا يعني أبداً أنه يمكن استنساخ النموذج التركي في تونس؛ نظراً للاختلافات الثقافية والإمكانات الاجتماعية، غير أنه من المتوقع أن يحظى حزب النهضة التونسي بفرصة كبيرة لتقديم خطاب سياسي معتدل، وبالتالي سوف يدخل في اختبار حقيقي. وكما هو معروف فإن لحظات القلق تسبق الاختبار، فإذا حافظ الحزب على المكتسبات الثقافية والاجتماعية فيما يتعلق بالحريات العامة في جانبيها الاجتماعي والسياسي، واعتمد إستراتيجية سياسية بعيدة المدى للإصلاح، فإنه سوف لن يتوقف عند القبول الشعبي التونسي داخلياً، بل سيجد قبولاً شعبياً خارجياً وسيكون النموذج التونسي مؤثراً كما التركي، وقد يحمل ذلك الأحزاب والجماعات الإسلامية المتشددة على المراجعة والرضا بفكرة الديمقراطية كفرصة وحيدة للدخول من خلالها إلى السلطة في ممارسة لا تمس بالدساتير، ولا تمس الحريات العامة للمجتمع، وخاصة أن طريقة سوق الناس بالعصا وإجبارهم على اتباع نمط حياة واحد قد أثبتت فشلها، بدليل أن الثورة التونسية أصلاً قد أطاحت بالحكم الفردي والنموذج الواحد. وقد صرح الرئيس أوباما قبل يومين بأن الشعوب تريد أن تكون حرة، مما يعني استيعاب السياسة الأمريكية والدول العظمى للحرية كقضية، بعد أن قضت الشعوب العربية عشرات السنين مهملة من هذه الناحية، حيث كانت سياسات الدول الكبرى سابقاً لا تهتم للهامش (الشعب) إلا أن هذا الهامش أقلق الدول والمجتمعات الغربية بعد نمو موجة التطرف والكراهية، لا بسبب قضية فلسطين كقضية محورية، إنما بسبب سياسة قمع الشعوب فيما يغض الغرب الطرف عن ذلك.

الآن تغيرت الأوضاع، وأصبحت الشعوب قوة لا يستهان بها، وهذا ما أدركته هذه الدول، فدعمت حصول تلك الشعوب على حقوقها، كما حصل في تونس. ومن هذا المنطلق لم يعد وصول حزب النهضة إلى السلطة في تونس يقلق فرنسا والغرب عموماً، ولا سيما أن الحزب تعهد بالحفاظ على الاتفاقات الدولية، وألمح إلى أنه ينوي القيام بمشروع إصلاحي كبير على المستوى السياسي والمؤسسي.

لكن التجارب السياسية توحي بأن كثيرا من الأحزاب الإسلامية تفقد شيئاً من شعبيتها وبريقها بعد وصولها إلى السلطة لعدم تنفيذها لوعودها التي قطعتها على نفسها، كما حصل مع حماس وحزب الله وقبلهما طالبان. أما المسألة التونسية فإن الغد لناظره قريب.. ولننتظر المشروع النهضوي، فإن فهم اللعبة وأجادها واستوعب حدودها ومكوناتها فإنه سينهض فعلاً، وإن حاول الانقلاب على الديمقراطية فسوف يسقط!