العلاقة بين كلمات عنوان المقال الثلاث هي أكثر المحاور في الحديث الأخير عن الربيع العربي، وهي الكلمات التي تفتح النقاش بين الأطياف والتيارات الفكرية في العالم العربي بلا استثناء، ولعلها من أكثر الكلمات إشكالية، حيث الاختلاف الفكري بين التيارات يجعل منها قضايا محورية، حل إشكالياتها هو حل لكثير من القضايا الحياتية ما بعد مرحلة الثورة.
بدء الاختلاف بين التيارات يتحدد ليس في نقد الأنظمة فالكل يتفق على فساد النظام العام في البلاد التي حصلت فيها الثورات، وإنما يتحدد الاختلاف في الموقف الفكري من "ما بعد النقد" أو "ما بعد الثورة"، وإدارة الحياة أو تحقيق التنمية والإصلاح في الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، ذلك أن المشاريع الفكرية التي يتمحور حولها أي تيار يختلف في مرجعيته وأيديولوجيته من حزب إلى حزب أو من تيار إلى تيار.
الثورة كانت تجمع مختلف التيارات تحت رؤية نضالية واحدة وهي إسقاط النظام السائد، ومن هنا وجدنا التلاحم بين التيارات واصطفافها إلى جانب بعضها البعض ضد الأنظمة القائمة، بل وصل الحال إلى تجاور المذاهب والأديان أحيانا، كما حصل أيام التظاهرات المصرية حتى إسقاط الرئيس المصري المخلوع، أما بعد الثورة فترتد التيارات والمذاهب والأحزاب إلى سابق عهدها، لأن المشترك الذي جمعهم قد زال، ومن هنا يبدأ التنافس بين التيارات في إدارة السلطة ويحاول بعضها نقد أو تقويض مشروع البعض الآخر.
تأتي الديموقراطية لتصنع النظام الجديد في ظل تنافس التيارات على السلطة وهو حق مشروع للجميع يحدد هذا الحق مدى كثرة أصوات الحزب الفائز. الخيار الشعبي هو الخيار الذي يُعوَّل عليه بناء الديموقراطية، فعدد الأصوات تعني رغبة الشعب في إدارة حكم البلاد من قبل أشخاص قدموا مشروعهم التنموي من أجل خدمة الشعب، ومن أجل تحقيق العدالة والمساواة، والشعب نفسه هو الرقيب والحكم الأخير في تقييم التجربة سواء بالفشل أو بالنجاح، ما لم يتم التلاعب بالانتخابات كما في الأنظمة التي ثار الشعب ضدها. لكن هذا لا يعني إطلاق يد الشعب في كل شيء. هناك حقوق عامة لا يمكن التصويت عليها أو جعلها موضع رغبة شعبية، كما هو الحال مثلا في عمل المرأة أو في حرية التعبير، أو فرض ديانة محددة، أو مذهب طائفي معين يجبر الناس عليه، فهذه الأمور لا يمكن التصويت عليها لأنه حق للفرد قبل الشعب، والحقوق لا تخضع لصوت الأغلبية، لأن الحق فوق التصويت.
وتضع الأحزاب الإسلامية نفسها كأكثر الأحزاب كثافة من الناحية الجماهيرية حتى أصبح التخوف من قبل التيارات الأخرى كبيراً في اكتساح أكثر المقاعد الانتخابية في السلطة، وهو ما حصل في بعض البلدان، وكما هو التخوف أن يحصل في مصر بوصفها من أهم الدول التي قامت فيها الثورة، وهو تخوف من قبل تيارات اليسار، لأن التيارات الإسلامية كانت ترفض الديموقراطية بل وصل الأمر ببعضها إلى أن حرّمت العمل الديموقراطي في سنوات مضت، وها هي الآن تصبح على مشارف استلام السلطة بالطريقة الديموقراطية التي كانوا يحرمونها، مما يمكن أن يجر المنطقة إلى التراجع عن المنجزات الوطنية التي كانت أو عدم تصالحها مع العصر، مما يخلق بؤر توترات عديدة بمسميات دينية يمكن لها أن تقوّض المشروع الديموقراطي من أساسه.
هذا ما يطلقه بعض المحللين السياسيين.. برأيي أن الوضع أصبح مختلفاً عمّا كان عليه، فالمراقبة الشعبية أصبحت أكبر بكثير من أن تنجر إلى صراعات ما قبل مدنية، وسوف تضطر الأحزاب الإسلامية الفائزة إلى المصالحة مع الشعب والعصر لضمان البقاء أكثر، ولعل الحفاظ على التجربة الديموقراطية أهم القضايا التي لا بد أن تحافظ عليها هذه التيارات إذا ما أرادت الاستمرار، لأن عودة الثورة ضدها وارد وبقوة خاصة مع نجاح الثورة سابقاً. السؤال هل لهذه التيارات مشروع تنموي مدني أم هو مشروع ديني لا أكثر؟ هذا ما سوف تثبته الأيام أو تنفيه.
الحالة الثورية حالة هياجية ضد الأنظمة الفاسدة، ولذلك يمكن أن تتحول هذه الثورة إلى تصفية حسابات أو انتقام ما لم تدخل الثورة في مرحلة بناء الدولة كما حصل في ليبيا حيث حس الانتقام العنيف ضد معمر، ويمكن أن نتفهم ذلك كون الثائر الذي يرى القتل اليومي لأهله ليس كالمحلل الذي يرى ما تبثه الفضائيات، أو أن تُختَطف الثورة لصالح قوى محددة قبل التصويت الشعبي كما في خطاب عبدالجليل فيما بعد انتصار الثورة الليبية، حيث استأثر بعدد من القرارات التي كان لا بد أن تخضع إلى التصويت الشعبي، وليس إلى قرار فردي، أشهرها إلغاء القانون السابق لمنع تعدد الزوجات في "ليبيا القذافية"، ويتوقع المحللون أنه نوع من المصالحة مع التيارات الإسلامية التي تحمل السلاح لنزعه منها، وهو تبرير يجعل من الحالة الليبية حالة غير مستقرة وداخلة في الفوضى، مما يمكن أن يقوض تجربة الثورة ومنجزاتها.
في الحالة التونسية أفرزت نتائج العمل الانتخابي عن فوز حزب النهضة بأكثر من أربعين بالمئة من أصوات الشعب التونسي، وهو الحزب الإسلامي الأشهر في تونس، وهذا ما أفرح الأحزاب الإسلامية العربية الأخرى، واعتبروها ضربة قاصمة للعلمانية التي تربى عليها الشعب التونسي بالقوة.. ما يريد أن يتجاهله البعض أن حزب النهضة حزب تربى في فضاء علماني عام، مما يجعله مختلفاً عن الأحزاب الإسلامية الأخرى فيما يعني تصالحه مع القيم العلمانية العامة في تونس، كما هو الحال في إسلامية حزب العدالة التركي، مما يجعل التجربة الإسلامية في تونس تختلف عن تجربة الأحزاب الإسلامية في الدول العربية الأخرى.
إن الثورة لا يعني دخولها في حالة مدنية؛ بل ربما تُختَطف، كما أن الديموقراطية لا تعني أنها النتاج الحقوقي الأمثل والتي وصلت مرحلة الكمال، بل إنها التجربة الأصلح (حاليا) إذا لم يتم الالتفاف عليها، من جهة أخرى لا يعني نجاح حزب إسلامي أنه سوف يقود إلى تجربة دينية خالصة، كما لا يعني فوزه رفضا للقيم العلمانية العامة التي تتعامل معها كل السياسيات، أو أنه سوف يحقق التنمية للبلد، لأن كل بلد وكل حزب له تجربته السياسية الخاصة التي لا تتشابه مع التجارب الأخرى.