"خلف القضبان"، قصص وحكايات، وعوالم لا يعرفها إلا من جربها، أو شاهدها بعينيه، وجال بين أروقتها، مكتشفا خبايا، بقي الناس تتلصص على تفاصيلها عبر ما يسمعونه من أخبار، أو يطالعونه من كتابات ومذكرات لسجناء سابقين، أو تحقيقات صحفية لصحفيين دخلوا للغرف المغلقة، والكثير تتشكل صورته عن هذه العوالم عبر الأفلام السينمائية، والتي يكرس معظمها صورة نمطية واحدة، للسجن، وكأن جميع السجون "أبو زعبل"!، غير معيرة قليل اهتمام لاختلاف الظروف والحالات من بلد إلى آخر.
الصورة النمطية
غرف مظلمة، لا يتسرب لها النور إلا قليلا، أو في أحسن الأحوال فقيرة الإضاءة، باردة ورطبة، وفي الصيف تستحيل لما يشبه "الفرن" من حرارتها، تمتد متجاورة، يربط بينها ممر يحتشد بالذاهبين لدورات المياه، أو المنتظرين لوجبات الطعام "البائت"، تلك هي صور السجن في أذهان الكثيرين، فيما "السجان" شخص مفتول "الشوارب"، بلا رحمة، أو شفقة، وبيده العصا الغليظة، أو شخص فاسد يبتز السجناء، نظير الحصول على المال ولفات السجائر!. وهي الصورة التي تجافي الحقيقة في جزء كبير منها، خصوصا مع التفاوت من سجن لآخر، ومن بلد لآخر، وإن كان المشهد في بعض الدول قاتما وبائسا.
سجون مختلفة
السجون في المملكة، حالها حسب المتابعين تطور كثيرا عن السابق، وهي تسير إلى ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان، والاعتناء بحقوق النزلاء، وتحولها من مكان للاحتجاز والعقاب، لمكان لإعادة التأهيل.
"الوطن" من جهتها، حاولت الوقوف على التغير الحاصل في أروقة السجون، لمعرفة درجة هذا التغير، وكيفيته، والمسار الذي يسلكه، وهي في هذا الصدد قامت بجولة لرصد ونقل الحقائق والخفايا خلف تلك الأسوار العالية، وسط تصور "المحرر" – المسبق كغيره- من أن السجن عزلة تامة، لا علاقة له بالعالم. والبداية كانت بعد حصولنا على موافقة المديرية العامة للسجون على الجولة، بعد أن رفع مدير إدارة سجون منطقة نجران، العقيد علي الشهري طلب"الوطن" بهذا الخصوص، وسط متابعة من المتحدث الإعلامي باسم السجون، المقدم الدكتور أيوب بن حجاب بن نحيت.
لحظة الدخول
الموافقة على الزيارة لم تلغِ شيئاً من الاحترازات الأمنية المعتادة، فالبداية كانت مع التفتيش بعد الترحيب بـ"الوطن" من قبل حراسات البوابة. وهو الأمر الذي لم نهتم له كثيرا، لأن كل ما كان يشغلنا هو كيفية التعامل مع السجناء وأسئلتهم. فالتفتيش إجراء احترازي ضد أي محاولات من البعض للقيام بعمليات تهريب لمواد ممنوعة لداخل السجن، كإدخال حبوب مخدرة، أو حشيش، أو حتى هاتف جوال يستخدم لأهداف "غير سوية". وبعد أن اجتزنا العقبة الأولى، كانت البداية مع مكتب مدير شعبة السجن العام بنجران، النقيب محمد صالح القحطاني، الذي عرج في حديثه على الدور الاجتماعي للسجون، وأعطى نبذة موجزة عما يقدم للسجناء من خدمات بشكل يومي ودوري.
24 جامعيا
بعد ذلك صحبنا النقيب القحطاني إلى "مقر المدارس"، حيث ينال النزلاء تعليمهم، بهدف الاستفادة من أوقاتهم، وتأهيلهم بشكل سليم، حيث أوضح لنا القحطاني أنه بـ"التعاون مع جامعة نجران، وللسنة الثانية، توفد الجامعة أكاديميين لإقامة دورات تأهيلية للطلاب المنتسبين، في أماكن هيأتها إدارة السجن لهذا الغرض، تتسع لـ 16 سجيناً حالياً، كما يواصل 8 سجناء آخرون تم الإفراج عنهم دراسة بدؤوها في السجن، فيما عدد منهم حقق معدلات مرتفعة في العام الماضي"، مبينا أن "هناك 116 طالبا يدرسون في مختلف المراحل الدراسية، منهم 50 طالباً في المرحلة الثانوية، سيلتحق عدد من الناجحين منهم في الصف الثالث، بالجامعة السنة القادمة".
وفي حديث مع أحد السجناء، والذي يدرس في قسم النجارة بالمعهد الصناعي، حيث يتعلم 70 سجينا، قال لنا عن تجربته "دخلت برغبة وحب للمهنة، ولأحصل على شهادة أحصل بها على عمل أعول من خلاله أسرتي، ولم يكن لملء الفراغ بعد الخروج من السجن بتاتا". يشار إلى أن مبنى المعهد الجديد والذي تم الانتهاء منه، كلف أكثر من 14 مليون ريال، ويضم خمس ورش تدريبية، بالإضافة إلى مبنى الإدارة للمعهد، وسيعمل العام المقبل بشكل كامل.
عمل متواصل
الجولة التي قضيناها متنقلين بين المعهد وأروقة السجن، جعلتنا نقف على أن ما يشهده السجن من تطور في الخدمات المقدمة، لم يكن آتياً من فراغ، فقد كان عمال الصيانة أثناء زيارة "الوطن"، منهمكين في تركيب سخانات المياه خارج العنابر، لمواجهة برد الشتاء، وكذلك صيانة الموجود من السخانات، كما وصل إلى السجن نحو 100 مكيف لتكون في خدمة النزلاء.
مكتبة متنوعة
في قسم الشؤون العامة، كانت المكتبة العامة زاخرة بكثير من العناوين المتنوعة، كيف لا، و"خير صديق في الزمان كتاب". كتب متعددة يرتبها السجناء بشكل يومي، وتضم أكثر من 10000 كتاب في مختلف العلوم، بالإضافة للمكتبة المسموعة، وصالة كبيرة للمحاضرات الدينية والتوعوية، يتم فيها الإرشاد بلغات مختلفة. هذا الجهد أثمر عن إشهار 7 من النزلاء إسلامهم، وسط نشاط مستمر، حيث أكد النقيب القحطاني إقامة 716 محاضرة دينية وتوعوية للسجناء، خلال العام المنصرم. فيما أبان رئيس قسم الشؤون العامة، الملازم أول صالح الفلاحي، أنه يزور المكتبة ما بين 30 إلى 40 سجينا يوميا، من بين أكثر من 800 سجين. الأمر الذي كانت إحدى نتائجه وجود أكثر من 30 حافظا للقرآن الكريم، و100 سجين آخرين يحفظون ما بين 5 إلى 20 جزءا من كتاب الله. فيما نجحت عيادة مكافحة التدخين، في مساعدة 84 مدخنا خلال العام المنصرم، في الإقلاع عن التدخين، حيث زار العيادة نحو 206 سجناء، خلال ستة أشهر.
مطالب بالسرعة
في وسط مسيرنا، صادفنا عددا من المساجين، والذين تحدثوا لنا عن عدد من المطالب، من بينها الطلب من إدارة سجون نجران، ورئاسة المحاكم، تكليف قاضٍ متفرغ ومساعديه داخل السجن، لدراسة ملفاتهم، والنظر في قضاياهم، خصوصا أن البعض مكث فترة طويلة، دون النظر إلى وضعه، ومنهم سجينان قالا لنا إنهما ومنذ أكثر من سنة ونصف، وهما ينتظران النظر في وضعهما، وهو الأمر الذي لم يتم حتى ساعة الحديث معهما.
غذاء خاص
ولأن الفكرة التي تدور في مخيلة كثيرين، حول تدني خدمات التغذية في السجون، قمنا بزيارة المطبخ الخاص به، ساعة إعداد وجبة الغداء، والتي شملت الأرز واللحم، كما الخضروات والسلطات، بتواجد مشرفين من العاملين بالسجن، واختصاصي التغذية. وللتثبت أكثر، ألقينا نظرة على الثلاجات ومستودعات المواد الغذائية، للتأكد من اشتراطات السلامة والأمن الصحي، والتي كانت مراعاة بشكل جيد، ولكن الشيء المهم، كان توفير أغذية خاصة لمرضى السكري وضغط الدم، تقدم للسجناء الذين يعانون من هذه الأمراض.
الصحة أولا
صحة النزلاء أمر في غاية الأهمية، لذا كان لا بد من أن تبدأ إجراءات دخول السجن بإجراء فحص طبي، في المركز الصحي داخل السجن، للتأكد من خلو النزلاء من الأمراض المعدية والوبائية، وخلوهم من الإيدز ومرض التهاب الكبد الوبائي.
مدير المركز الطبي، سالم عايض الوادعي، أطلعنا على مراحل الفحص ومكونات المركز، والذي يضم عيادة أسنان، وعيادة ضماد، ومختبرا، وصيدلية، وعيادتين عامتين، وجهاز تخطيط للقلب، وجهاز أشعة تلفزيونية، وجهاز فحص النظر، حيث يخدم هذا المركز الجنسين من النزلاء، بسبب عدم وجود مركز صحي مخصص للنساء فقط في السجن. ويعمل المركز على مدار 24 ساعة في اليوم، ويزوره ما بين 30 إلى 40 سجينا لتلقي العلاج اللازم. كما يزوره أطباء اختصاصيون في الصحة النفسية والأمراض الجلدية. وهو مزود بسيارتي إسعاف، لنقل أي سجين إلى مستشفيات المنطقة. كما تم تحويل إحدى الحالات إلى أحد المستشفيات المتقدمة بالرياض جوا، لعمل قسطرة بالقلب.
الصحة النسائية
الصحة التي تعد أمرا في غاية الأهمية بالنسبة للنزلاء الرجال، لا تقل أهميتها إن لم تزد، لدى السجينات من النساء، اللواتي لا يملكن مركزا صحيا خاصا بهن، رغم ما يحتاجه كثير منهن من عناية تفرضها طبيعة المشكلات والعوارض الصحية التي تنتاب النساء. الأمر الذي دفعنا إلى الاستفسار من النقيب القحطاني، بخصوص عدم وجود المركز الصحي النسائي، يعمل به طاقم نسوي، حيث أجاب بقوله "حالنا كحال المستشفيات الخارجية الأخرى"، مبينا أن العيادة داخل عنبر النساء يتم بها الكشف على المريضات. أما حالات الولادة، فيتم تحويلها إلى المستشفيات الأخرى.
حالتا إيدز
وضمن الإجراءات الاحترازية، تم تخصيص عنبر لـ"العزل"، ضم بين جنباته في العام المنصرم، حالتين مصابتين بمرض نقص المناعة المكتسبة "الإيدز"، تم اكتشافهما في السجن، لنزيلين مقيمين، تم ترحيلهما تاليا.
سُجِن ليغسل دمه!
المكان الذي يزدحم بكثير من الحالات في شتى الأصناف، وجدنا به حالة قد تكون "نادرة"، لسجين يحمل جنسية عربية، مصاب بمرض الفشل الكلوي، وكان يتهيأ للذهاب إلى موعد الغسيل الكلوي في أحد مستشفيات نجران. إلا أن "مصادر" أكدت لنا أن المقيم "دخل السجن للاستفادة من خدمة الغسيل المجاني للكلى، الذي يقدم للسجناء المقيمين، بينما لا تقدمه المستشفيات الحكومية مجاناً لغير السعوديين". وهو في هذا الصدد أكد أنه يشعر بـ"الراحة والطمأنينة داخل السجن" الذي يقدم له "خدمة" نقله لعمل الغسيل الكلوي في أحد مستشفيات المنطقة!.
الجوال ممنوع
السجناء لا يمكنهم أن يبقوا في عزلة عن عائلاتهم، ولأن اقتناء الهواتف الجوالة ممنوع على السجناء، فإن كبائن الاتصال التي بلغ عددها 20 كبينة، هي من تسد الفراغ، وتوفر للسجين الاتصال بمن يرغب من ذويه وأقاربه، ليطمئنوا على وضعه وصحته، وهذا أيضا من ضمن الخدمات التي توفر للسجناء، "في سبيل راحتهم، والعمل على تواصلهم مع ذويهم" كما يؤكد القائمون على السجن".
لقاء الأزواج
شقق الخلوة الشرعية للمتزوجين من السجناء، هي مكان التقاء الأحبة الأزواج، حيث يبلغ عددها 8 شقق مفروشة، تقع جميعها في مبنى واحد، حيث يقضي بها السجين يوما كاملا مع أهله وذويه. وفي هذا الصدد أبان النقيب القحطاني أن "هذه الشقق توفر راحة كثيرة للسجناء، وتجنبهم العزلة عن الأهل، والتواصل مع زوجاتهم، ومن يرغبون من محارمهم". هذا وقد استفاد من شقق الخلوة عريسان تزوجا داخل السجن، حيث تم عقد النكاح بتواجد المأذون الشرعي.
ليس لدينا ما نخفيه
مدير عام السجون بمنطقة نجران، العقيد علي بن أحمد الشهري، قال في حديثه مع "الوطن"، إنه "ليس لدينا شيء نجعله بعيدا عن الأنظار، أو في خفية، ونحن دائما مع الإعلام لإظهار الحقيقة. وهؤلاء السجناء أمانة، والعمل في السجون يتطلب الصبر والجهد والمثابرة"، موضحا أن هنالك "توجها لفتح إصلاحية جديدة في بئر عسكر، إضافة إلى إقامة مبنى جديد لإدارة السجون بالمنطقة، على الطريق الدائري الشمالي".