خلال الأيام القليلة الماضية شهدت ليبيا حدثين رئيسيين. الأول كان مصرع الرئيس الليبي العقيد معمر القذافي، في مواجهات عسكرية، في مسقط رأسه مدينة سرت، مع ابنه المعتصم ومجموعة من القيادات العسكرية التابعة له، وعلى رأسها وزير الدفاع، أبو بكر يونس. وبسقوط مدينتي سرت وبني وليد في أيدي المعارضة، سقطت آخر المعاقل التي بقيت على ولائها للنظام السابق. أما الحدث الثاني، فأخذ مكانه يوم الأحد من هذا الأسبوع، وتمثل في إعلان تحرير ليبيا، من مدينة بنغازي، ودخول البلاد مرحلة بناء الدولة، بعد نهاية مرحلة "الثورة"، ودعوة حملة السلاح إلى تسليم أسلحتهم، بعد أن انتفى مبرر حملها.

في الحدثين المذكورين، كما في التطورات التي ارتبطت بسقوط العاصمة طرابلس، دلالات لا تجعلنا نتفاءل كثيرا بالقادم من الأيام، على صعيد تعافي هذا البلد العزيز وتوجه شعبه نحو بناء الدولة العصرية. في هذا السياق، نركز على مسألتين، ونناقش تداعياتهما المحتملة، وسيكون علينا أن نتناول عناصر أخرى، ذات علاقة مباشرة بهما. الأولى: تركيبة المجتمع الليبي ذاته، المتسم بالقبلية، وغيبة المجتمع المدني، وعدم ترسخ مفهوم الدولة بمكوناتها الحديثة. يضاف إلى ذلك، الفراغ السياسي شبه الشامل، والذي لم يتشكل أصلا في ليبيا منذ نهاية الاحتلال الإيطالي، والحصول على صك الاستقلال. والمسألة الأخرى، مستقبل العلاقة مع حلف الناتو، وتأثيراتها على شكل النظام السياسي الليبي المرتقب.

هنا نحن أمام وضع أعقد بكثير من الذي جرى في العراق، إثر الاحتلال الأمريكي، بما يدحض الدعاوى الغربية القائلة بإمكانية الاستفادة من نموذج العملية السياسية التي نفذها الأمريكيون بالعراق. فسقوط الدولة الوطنية في العراق، أعقبه وجود مندوب سامي أمريكي، بول برايمرز، قام بهندسة وتنفيذ العملية السياسية في أرض السواد، بطريقة اتسقت مع المشروع الأمريكي، الهادف في النتيجة، وكما أعلنته مراكز ومعاهد الدراسات الاستراتيجية الأمريكية، إلى أن يستمر القرن الواحد والعشرين أمريكيا، كما كان القرن الذي سبقه.

في ليبيا، أسقطت الدولة التي تكونت بعد الاستقلال مباشرة بعد إعلان الملكية. وحين جاء العقيد القذافي، إلى السلطة لم يتم تدمير الدولة القائمة بين ليلة وضحاها، بل استمرت هياكلها وكوادرها تعمل، كما كانت لفترة طويلة. فالجيش هو الجيش والمؤسسات بقيت كما هي، إلى نهاية السبعينيات من القرن المنصرم، إلى أن تم إجراء تعديلات تدريجية، بما يتسق مع رؤية الزعيم الليبي، قائد الانقلاب.

في التحولات التي ارتبطت بالأحداث الأخيرة، ألغيت الدولة الليبية جملة وتفصيلا، ولم يتبق أي شيء من هياكلها، وتزامن ذلك مع تدمير منهجي ومكثف للبنية التحتية للبلاد. والوضع مختلف تماما هنا في هذا الاتجاه عنه في التجربة العراقية. فحلف الناتو لم يعلن نفسه كقوة احتلال لليبيا، وأن جل ما يقوم به هو تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي الهادف إلى حماية المدنيين الليبيين. ولذلك فإنه ليس في أجندته المعلنة، على الأقل، خارطة طريق لمستقبل ليبيا ما بعد القذافي. هذا أمر...

أما الأمر الآخر، فإن القوى الأوروبية والأمريكية التي هيأت عسكريا، من خلال تدميرها نظام العقيد، للمعارضة الليبية الوصول إلى السلطة، غير متجانسة في أهدافها ورؤيتها لمستقبل ليبيا. ويحكم هذه القوى، ما أطلقنا عليه في حديثنا السابق، تحت عنوان "عالم يتغير" بسياسة الباب المفتوح، حيث أبواب التنافس بين القوى الكبرى على ليبيا، ستفرح على مصاريعها. وربما ينتج عن ذلك وجود مناطق نفوذ داخل ليبيا، كل منطقة تخص واحدة من القوى التي كان لها الدور الأساس في إسقاط "الجماهيرية"، وعودة "علم الاستقلال".

وإذا ما وضعنا في الاعتبار المسلمة المعروفة في العلوم السياسية، بأن العلاقات الدولية تقوم على المصالح، وأن الذي حكمها هو قانون التنافس وصراع الإرادات وتوازن القوة، فمن غير المرجح أن تترك مجموعة حلف الناتو التي كان لها الدور المركزي والأساس في إسقاط نظام العقيد ليبيا لأهلها يديرون أمورهم كما يشاؤون. فهذه القوى لم تقم بعملها بدافع فعل الخير، وليس لخاطر عيوننا، ولم تكن الأوضاع الإنسانية التي عاشها الليبيون في ظل النظام السابق، هي دافع تحركهم. وللنفط الليبي، العصب المحرك للصناعة في الدول المتقدمة جاذبيته وسحره الخاص.

ما هو البديل والممكن، في حالة الصراع على ليبيا. هنا يطرح السياسيون في الغرب، وبعض القوى الليبية المرتبطة بهم قيام نظام سياسي لا مركزي في ليبيا، دون تحديد شكله. هل يعني ذلك الحديث عن فيدرالية، أو ما هو أقل منها، شكل كونفدرالي على سبيل المثال... تلك قضية يصعب علينا الجزم والتقرير فيها، في هذا الوقت المبكر.

لكن الذي لا شك فيه، أن ليبيا لن تعود إلى وضعها الاندماجي الذي كانت عليه، قبل الأحداث الأخيرة. فالذين يبشرون باللامركزية قد باشروا فعليا مهمة التنظير لها. وطرحوا اتساع رقعة الأراضي الليبية، ووجود مكونات قبلية غير متجانسة، والكيانية المعاصرة للدولة الليبية، التي ارتبطت بالاستقلال، والتي لم تكن متحققة في ظل الحكم العثماني والإيطالي، كأسباب مباشرة لإنهاء مرحلة الدولة الاندماجية.

ما علاقة هذه القراءة بالمقدمة التي استفتحنا بها هذا الحديث: سقوط العاصمة طرابلس ومصرع القذافي، والاحتفال بـ"تحرير ليبيا"؟.

قلنا إن تداعيات هذه الحوادث، وطريقة "تمثلها"، لا تجعلنا نتفاءل بالقادم من الأيام. وهنا نجد لزاما علينا في هذه العجالة أن نقدم قراءة أولية لهذه الأحداث، لنشبعها مناقشة وتحليلا في الحديث القادم وأحاديث أخرى قادمة، بإذن الله.

في الحدثين، سقوط طرابلس ومصرع العقيد، أمامنا في الحادثة الأولى دراما هوليودية، وفي الثانية تراجيديا وملهاة إغريقية. هكذا أريد للمشهدين أن يتمثلا. في المشهد الأول، أحد كوادر تنظيم القاعدة يقود عملية "تحرير العاصمة الليبية "طرابلس"، بعد توطئة من حلف الناتو، بقصف جوي ممنهج استمر عدة شهور، أحال مقر العقيد في باب العزيزية إلى ركام، وأعاد طرابلس، كما بغداد في السابق إلى العصر الحجري. واقتحام العاصمة لم يتم بجيش منظم بل بطريقة الفزعة، وبشكل أقرب إلى حروب داحس والغبراء... كل قبيلة ترفع رايتها، ولا يوجد من جامع بين الغرماء سوى استكمال مهمة القضاء على السلطة التي احتكرت العنف في السابق، ليصبح العنف ملكية جماعية ليس من حق أي طرف احتكاره.

ويبقى علينا أن نتوقف عند هذه المحطة، لنتابع لاحقا موضوع مصرع العقيد، والاحتفال بـ"التحرير"، ولنناقش دلالات هذه الأحداث وتداعياتها على المستقبل الليبي الذي نضرع إلى المولى عز وجل أن يجعلها بردا وسلاما على شعب ليبيا الشقيق.