ليس من السهل أن يستوعب السعوديون عبارة: رحمه الله، بعد اسم الأمير سلطان بن عبد العزيز، بدلا من كلمة حفظه الله، التي تحمل دعوة ظلت جزءا من اسمه على ألسنة السعوديين بمختلف أجيالهم. يترسخ غيابه هذا اليوم، حين يوارى جثمانه الثرى، مجللا بالدعوات والدموع والشعور الطاغي بالفقد.
لا يمثل الأمير سلطان بن عبدالعزيز مجرد شخصية قيادية رسمية، وذات تاريخ إداري حافل بالإنجازات وحسب، بل يمثل شخصية ذات حضور شعبي طاغ، ويؤكد ذلك أن كل الصفات والألقاب التي حصدها الأمير سلطان طيلة مسيرته كانت صفات قادمة من الناس بمختلف شرائحهم ومن مختلف المناطق، فقد أسس سموه شخصية غاية في الاقتراب من الناس، وجعل من العطاء والكرم صفته الأبرز التي ظل يديرها انطلاقا من ثقافته ومن قيمه، وبعيدا عن أي تكلف، ولذا انعكست آثار عطائه على الناس بمختلف طبقاتهم، ولم يكن مقصورا على طبقة بعينها، مما ساهم في ترسيخ البعد الشعبي والإنساني لسيرته.
أسهم الأمير سلطان، ومن جوانب متعددة، في التأثير في الوعي العام باتجاه ما هو مدني ووطني، ومن خلال أعمال الخير الواسعة والعامة التي أسسها وعمل عليها وتبناها، استطاع أن يخلص فكرة ارتباط عمل الخير بفئة أو ثقافة أو ديانة أو إقليم أو غيرها، وحتى مختلف ألقاب الخير التي حصدها سموه من قلوب الناس وعلى ألسنتهم، كانت تدور في فلك البعد الإنساني لخيريته وكرمه، مما يشير إلى الدور الفعلي للراحل ـرحمه الله ـ حين رسخ ثقافة عالمية وإنسانية للعمل الخيري، وخاصة أن هذا الترسيخ لم يكن مجرد آراء أو مواقف عابرة، بل كان مشروعات مستمرة جابت مختلف أرجاء المعمورة.
لدى ولي العهد تعريف واضح وإيجابي لعمل الخير، فهو لا يتحرك بمنطق الصدقة والهبة فقط، بل بمنطق الخير الذي يؤسس للاكتفاء والاستغناء، والكثير من مشروعاته ليست عبارة عن لحظات تبدأ وتنتهي، ولكنها عمل متصل، وفي مشروع الأمير سلطان لتوطين وظائف التمريض النسائية الذي نفذته الأكاديميات الدولية للعلوم الصحية، أبرز دليل على ذلك، فالمشروع يستقطب الفقيرات وذوات الحاجة لا ليمنحهن هبة مالية، بل ليمنحهن فرصة للتعليم والتدريب والتأهيل، ليس ذلك فحسب، بل في أهم الحقول وأكثرها احتياجا لليد الوطنية المؤهلة والمدربة، مما يضمن لهن فرص عمل متنوعة بعد التخرج، وهذا دليل على أن أفكار العطاء لدى سموه تؤسس لاكتفاء المستفيدين، ولا تتوقف عند العطاء بمفهومه التقليدي، وتسعى في ذات الوقت لشمول أكبر عدد من الناس بذلك الخير، فمشروع توطين وظائف التمريض النسائية استفادت منه أكثر من ألف وخمسمائة طالبة من المحتاجات والفقيرات وفي مختلف مناطق المملكة.
كان الأمير سلطان بن عبدالعزيز يرعى العديد من الكراسي العلمية والبحثية في مختلف الجامعات السعودية، وفي تنوع يشمل كثيرا من الفنون والآداب والمعارف، خاصة بالنظر إلى الدور الفعلي لسموه في النهضة العلمية والمعرفية السعودية، فالراحل كان رئيسا للجنة العليا لسياسة التعليم، ومواقفه في الاهتمام بالعمل والمعرفة واسعة ومؤثرة، والكليات الحربية التابعة لوزارة الدفاع والطيران، شهدت في مختلف فتراتها اهتماما من سموه بالابتعاث الخارجي، إضافة إلى وقوف سموه خلف بروز ونجاح وازدهار العديد من المؤسسات التعليمية.
هنا لا بد من الوقوف عند واحد من أبرز المشروعات العلمية التي وقف خلفها سمو ولي العهد ـ رحمه الله ـ والمتمثل في الموسوعة العربية العالمية، التي تمثل أول وأضخم موسوعة عربية وعالمية، والتي جاءت وسط فقر شديد في العالم العربي وفي الثقافة العربية للموسوعات العلمية.
كل هذا يقودنا إلى أن التأثير الثقافي للأمير سلطان بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ يتخطى تلك الجوانب العامة إلى جوانب ذات أبعاد ثقافية ومعرفية واجتماعية.
مثل هذه الشخصيات، وبكل هذا الامتداد والعطاء والتأثير، تتحول إلى ركن بناء في الثقافة المحلية، وإلى قيمة تاريخية من قيم التاريخ الوطني، ولحظة من لحظاته التي ما تلبث أن تبدأ من حيث تنتهي، وما تلبث أن تستأنف حضورها من حيث ما يباغتها الغياب.
لذا، فالراحل الكبير، سلطان بن عبدالعزيز، إنما غاب ليحضر أكثر، وتوارى عن الأنظار، لكي يتشكل كل يوم في ذاكرة وطنية، هو أبرز صناعها ومؤسسيها.