فقدت البلاد أحد أهم الرموز السياسية التي ساهمت في أمن واستقرار ليس المملكة فقط، بل والمنطقة بأسرها. فقدنا ولي العهد وزير الدفاع والطيران المفتش العام الأمير سلطان بن عبدالعزيز بعد معاناة طويلة مع المرض، ومع وفاته رحمه الله وأثناء مرضه برزت واعتلت مشاعر الحب المتراكمة داخل أفئدة كثير من الناس، مواطنين ومقيمين وكثير من أبناء دول الجوار.

ما يميز الفقيد إلى جانب الدور السياسي المهم الذي اضطلع به عبر عقود من الزمن هو إنسانيته الجارفة، المتمثلة بالرحمة والعطف والبر ومساعدة المحتاجين. كان الأمير بالفعل سباقاً إلى الخير. أوامره بنقل المرضى بغرض الاستشفاء إما في مدينة أخرى داخل الوطن أو في الخارج أصبحت وكأنها نظام رسمي، إذ لا يرد في الغالب الأعم أحد وتصبح العملية مجرد أوراق وروتين. إضافة إلى ذلك كان كثير العطاء لأعمال الخير والاهتمام بالضعفاء والمديونين والبؤساء. مناقب هذا الرجل لا يمكن أن يحصرها أي كاتب في مقال.

شاهدت الأمير سلطان شخصياً للمرة الأولى في حائل أثناء طفولتي قبل خمسين عاماًً. فقد كنت بجانب والدي الذي كان ضمن المسؤولين المرافقين للأمير عبدالعزيز بن مساعد بن جلوي رحمه الله في استقبال الأمير سلطان في المطار. كانت زيارة خاصة ومهمة قام بها إلى حائل بعد يومين من وقوع خلاف تطور بين بعض الأفراد وأحد المسؤولين في دائرة السجون. سبب هذا الخلاف هو قيام المسؤول بسجن أحد المخالفين على ذمة قضية معينة واعتراض أهله ومن هم حوله على السجن. عندما شاهد الأمير سلطان بعد خروجه من الطائرة هؤلاء الأفراد يقفون بعيداً عن أمير المنطقة في المطار فيما يبدو اعتراضاً على الإجراء الذي تم بواسطة المسؤول الذي كان يقف على مقربة من أمير المنطقة، ويستعدون للسلام على الأمير سلطان متجنبين المرور على أمير حائل، منعهم من الاقتراب قائلاً: "سلموا على الأمير أول. اللي ما يسلم على الأمير لا يسلم علي". فما كان منهم في موقف مهيب كهذا إلا أن فعلوا وبعد أن فرغوا جميعاً من ذلك استقبلهم بحضرة أمير حائل وتمت مناقشة الحادثة في أجواء أبوية بما كفل انتهاء الموضوع بود. موقف سريع وقعت كل أحداثه في المطار الصحراوي لكنه ينم عن حكمة ودهاء وفي نفس الوقت كبرياء وحزم يليق بمكانته وبأهمية الحدث. الذي دعاني إلى استذكار هذه اللحظة وهي بالمناسبة رواية الوالد رحمه الله إذ لا يمكنني استذكارها بدقة في ذلك العمر هو إعجاب الناس بهذا الموقف سواء كانوا من هذا الطرف أو ذاك عندما أصبح الجميع يردد ما حدث بإعجاب وأصبح ذلك الخلاف "الأصل" في طي النسيان.

ولي العهد رحمه الله، كان أخا باراً وكان صديقاً قريباً للملوك من إخوانه في أوقات الشدة في رمزية مهمة لا يشعر بها إلا أعداء هذا الكيان. اقترابه اللصيق من الملك فيصل والملك خالد والملك فهد في كل الأوقات وخصوصاً أوقات المرض التي ألمت بالملك خالد والملك فهد هو موقف الرجل الشهم الكريم. هو موقف يعكس البر والوفاء ليرسخها كقيم لا يستهان بها في مجتمعنا المسلم. إضافة إلى ذلك كان الفقيد شديد الحرص على الاقتراب الدائم من أفراد القوات المسلحة في كل مناسبة. أستطيع أن أجزم بل وأراهن أن فقيدنا الكبير هو أكثر مسؤول رفيع عاش لحظات الإقلاع والهبوط في طائرة مدنية نتيجة إصراره على معايدة أفراد القوات السعودية المنتشرة في حدود المملكة شمالاً وجنوباً غرباً وشرقاً في كل عيد.

من بين أهم المنجزات التي تأسست في حياته بنظري هي مؤسسة الأمير سلطان الخيرية العملاقة. هذه المؤسسة هي صاحبة المبادرة في تشييد مدينة الأمير سلطان للخدمات الإنسانية على طريق القصيم في الرياض قبل عشرين عاماً. وبفعل دعم الفقيد لها فقد تحولت هذه الرؤية إلى حقيقة وأصبحت المدينة مركزاً عالمياً في إعادة التأهيل. كما أن الفقيد رحمه الله كان داعماً كبيراً لقدرات مستشفيات القوات المسلحة في عموم مناطق المملكة التي تحولت إلى مراكز طبية عالمية في معظم تخصصاتها ولم ينحصر علاجها على منسوبي الدفاع فقط.

سنفتقد بكل تأكيد تلك الابتسامة العريضة الملازمة لمحياه أينما حل وارتحل. سنفتقد هيبته وتواضعه. سيفتقد أبناؤنا أفراد القوات المسلحة قائدهم ومحبته لهم. وبكل تأكيد سيفتقده أولئك الجنود الذين واساهم قبل عام في غرف المرضى بعد عودته من رحلته العلاجية الأولى وأصر على تقبيل رؤوسهم في لقطة تذكارية عاطفية عظيمة وغير مسبوقة. لكننا مؤمنون بقضاء الله ولا نملك في لحظات الحزن الكبير إلا الدعاء له. فاللهم اغفر لعبدك سلطان واجعل ما أصابه من معاناة تكفيراً له وأسكنه جنات النعيم.

عزاء خاص للإنسان البار الكبير الأمير سلمان بن عبدالعزيز الذي وقف إلى جانب الفقيد في رحلته في الخارج مبتعداً عن الدار والأهل والعمل ضارباً أسمى معاني البر والوفاء. عزاؤنا إلى أبناء وبنات فقيد الوطن وذويهم وإلى الشعب السعودي الوفي وإنا لله وإنا إليه راجعون.