"الحقيقة أن أبناء المملكة العربية السعودية كلهم أبناؤه، واليوم يوم من أيام المملكة تتذكر أنها فقدت رجلاً عظيماً، وزعيماً أدى دوره ولله الحمد، وخدم بلاده لأكثر من 67 عاماً منذ أن تولى إمارة الرياض وعمره 16 عاماً، ولا يوجد منزل أو بيت في المملكة العربية السعودية إلا تجد فيه محبة وتقديراً لسمو ولي العهد، رحمه الله وتغمده بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون."
لم يجانب سمو الأمير فهد بن سلطان ـ قائل السطور الآنفة ـ الحقيقة، وهو يؤكد أن كل بيت في السعودية يحمل محبة لفقيدنا الكبير سمو الأمير سلطان بن عبدالعزيز، إذ نشأت أجيال عديدة لا تعرف سوى تلك الابتسامة الشهيرة والدائمة على محيّاه ـ يرحمه الله ـ سواء وهو يفتتح المشاريع الواحدة تلو الأخرى، أم أثناء ارتجاله لخطبه التي كان يلقيها في زياراته السنوية التي يجوب المملكة من شمالها لجنوبها وشرقها لغربها، متفقداً أبناءه في القوات المسلحة، لذلك أصابت وكالة (رويترز) العالمية وقتما وصفته بأنه باني الجيش السعودي الحديث.
ربما لا أنسى أبداً في عام 1415 حينما قال جملته الشهيرة، ووقفت القاعة تصفق له طويلاً، أثناء تأسيس مؤسسة الأمير سلطان بن عبدالعزيز الخيرية: "كل ما أملكه في المملكة من مبانٍ وأراضٍ وكل شيء ـ عدا سكني الخاص ـ هو ملكٌ لمؤسسة سلطان بن عبدالعزيز الخيرية"، لذلك كانت أياديه الكبيرة التي امتدت لأسر عديدة، وتجاوزت حتى حدود مملكتنا الغالية لتصل للفقراء في أفريقيا وآسيا، فيما سخّر طائرة الإخلاء الطبي لخدمة للمواطنين والمقيمين لنقلهم بين مدن المملكة، وكلنا يعرف أن مكتبه يتلقى مئات طلبات تكفل نفقات العلاج التي يأمر بها سموه ـ يرحمه الله ـ من حسابه الخاص، ويلجأ إليها ذوو الدخول المنخفضة من المواطنين.
عندما أطلق المجتمع عليه لقب (سلطان الخير) لم يطلقه إلا لاستحقاقه ـ يرحمه الله ـ ذلك، فقد كان سخيّ اليد، ويسبق فعله قوله، ولربما كان الجانب الإنساني برأيي قد أعطي مساحة جيدة من التعريف، بسبب حديث جمهرة الناس الذين غمرتهم أياديه البيضاء، بيد أن ثمة جوانب أخرى في سيرة الراحل لم يتطرق لها الإعلام، وواجبٌ على كل المعاصرين لتلك الأحداث الحديث عنها، وتعريف المجتمع بها وبمواقفه يرحمه الله.
من هذه الزوايا، جانبٌ مهم لم يسلّط عليه الضوء في سيرة فقيدنا الكبير، فقد كان هو المشرف على لجنة تطوير المناهج الدراسية، وأتذكر أنني في مكاشفاتي مع معالي الدكتور محمد الرشيد في عام 2006، سألته عن مشروع تطوير المناهج، ووقتها كانت السجالات الإعلامية العنيفة تدور في ساحات الإنترنت والصحف، وتعرّض معاليه لحملة شديدة من بعض الجهات التي كانت غير مطمئنة ومتوجّسة من التطوير، ونقلت له ذلك عبر سؤالي له: "هل من ضمانات يا معالي الوزير بأن تطوير المناهج لن يكون مخالفا لقيمنا المحافظة، ورسالة الإسلام التي نؤمن بها؟ كيف يطمئن المجتمع إلى أنها منسجمة ولا تصادم هوية المجتمع"، فأجابني معاليه من وهلته: "يا أخ عبدالعزيز، لجنة يرأسها سمو الأمير سلطان، ألا يكفي المجتمع ذلك ضمانة؟"
وقبل يوم أمس السبت، كنت في مهاتفة أخوية مع أحد الرموز الفكرية التي شاركت في تلك اللجنة، ونحن نستعرض سيرة ولي العهد ـ يرحمه الله ـ سردت له ما قلته لمعالي الوزير محمد الرشيد، وما أجابني به، بادرني قائلاً: "والله موقفان لن أنساهما أبدا لسمو ولي العهد، وأنا من كنت في لجنة تطوير المناهج تلك التي تتحدثون، إذ أتانا أحد الأكاديميين بملف كبير، وطلب فيه حذف موضوع (الولاء والبراء) من المناهج الدراسية، لأن الدول الغربية تؤاخذنا عليه، وسلمها لسمو الأمير سلطان، وإذا بالأمير يغضب، ويقول: لن نتنازل عن ديننا كي ترضى عنا تلك الدولة أو غيرها، نحن بلاد قام أساسها على الإسلام، ونحن بدونها لا نساوي شيئاً، بل تبقى عقيدتنا كاملة ولن نأخذ منها لإرضاء أحد من البشر، وليسخط من يشاء، وألقى ـ يرحمه الله ـ بالبحث دون أن يقرأه".
يقول هذا العضو: "كم أكبرنا ـ نحن الحضور ـ هذه الغيرة على الدين، وهذا موقف منه ليس للاستهلاك الإعلامي، بل كنا بضعة عشر عضواً، ولكنها الغيرة الصادقة لله ولهذا الدين"، ويكمل: "الموقف الثاني، عندما اقترح بعض الأعضاء أن نستبدل كتاب (الأصول الثلاثة) لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب من منهج التوحيد، رفض سموه تماماً هذه الفكرة، ووجّه بأن تبقى، قائلاً: هذه الدولة قامت على أساس متين من مناصرة الدعوة الإصلاحية للإمام المجدّد، وهو ما سار عليه الآباء والأجداد، ولن نغيّر هذه السياسة أبداً، فنحن حملة رسالة ودين". ليت أولئك الأعضاء في لجنة التطوير، يكرموننا بما كانوا يتلقونه من توجيهات سموه لتثبت في تاريخه، وما ثبت فيه كثير وكثير، غير أن مثل هذه المواقف التي لا يعرف الناس عنها، هي مما نحتاج أن نعرفه.
وبالعموم، كثيرة هي مواقف سمو الأمير سلطان يرحمه الله، غير أنني أختم هذه المقالة العجلى، بملاحظة هي موقف الأمير سلمان بن عبدالعزيز الذي لازمه في رحلات علاجه الأخيرة، وكان عضد أخيه الذي شدّ من أزره، وكم أكبرنا ـ في سموه ـ وقفته الحقّة مع أخيه الأكبر، وقد ضرب لنا مثالاً حقيقياً في الوفاء والأخوّة الصادقة.