منذ أيام قليلة والعالم بأسره يعيش هوساً كروياً يُسيطر تقريباً على كل مفاصل الحياة بمختلف أشكالها ومستوياتها, فحمى مونديال كرة القدم بجنوب إفريقيا بنسخته الـ 19 تجتاح نحو ثلاثة مليارات متابع ــ بشكل أو بآخر ــ في تظاهرة احتفالية استثنائية مثيرة تنتظرها الشعوب بلهفة وشوق وحماس كل أربع سنوات. فمنذ 80 عاماً, وتحديداً في عام 1930, حينما بدأت هذه البطولة العالمية في الأورجواي وهي تحظى باهتمام ومتابعة وتفاعل لا نظير لها عن باقي التظاهرات والفعاليات العالمية. ولسوء الطالع ــ وقد تكون هناك أسباب أخرى ــ تغيب السعودية عن هذا المونديال الذي تُعتبر المشاركة فيه بمثابة الحلم لكل الرياضيين, بل ولكل الأمم, وذلك بعد أربع مشاركات خجولة, إلا أنها وضعت المنتخب السعودي على خارطة كرة القدم العالمية, وقد كانت البداية الرائعة في أمريكا عام 1994م, مروراً بفرنسا و"كوريا واليابان" عامي 1998 و2002, وانتهاءً بألمانيا عام 2006. وأنا لست بصدد الخوض في هذا الملف الرياضي الشائك والذي مازال يشغل الوسط الرياضي ــ بل الوطن بكامله ــ منذ عدة أشهر حينما فقد الأخضر حظوظه بالتأهل لهذا المونديال العالمي الكبير. أنا لست بصدد ذلك مطلقاً, فلذلك المجال الواسع كتابه ونقّاده ومحللوه الذين يملؤون وسائل الإعلام المختلفة ــ لاسيما الرياضية ــ صراخاً وضجيجاً ولغطاً.
ولسوء الطالع أيضاً, يتزامن هذا المونديال الصاخب والذي يستمر شهراً كاملاً مع حدث مهم لا يقل عنه خطورة وأهمية, حيث يطل علينا بعد عدة أيام مونديال من نوع آخر, هو أشبه بأنفلونزا موسمية تجتاح كل البيوت السعودية بلا استثناء. الاختبارات النهائية, هذا الضيف الثقيل والمزعج. وبين المونديال الكروي والاختبارات النهائية تعيش الأسر السعودية في مثل هذه الأيام حالة من القلق والارتباك والاستنفار.
ما يهمني في هذا المقال هو الإجابة على هذا السؤال الذي يفرض نفسه في هذه الفترة العصيبة على واقع المجتمع السعودي: هل نحن قادرون كمجتمع ومؤسسات رسمية وخاصة على إدارة أزماتنا الكثيرة, لاسيما المتزامنة منها؟, هذا طبعاً إذا اعتبرنا أن الحدثين المهمين المتزامنين ـ المونديال والاختبارات ـ يُشكلان أزمة كبيرة تحتاج إلى إدارة وحسن تصرف.
أستطيع القول وبكل صراحة وثقة بأن هذين الملفين الخطيرين وبسبب تزامنهما المثير يُصعبان المهمة كثيراً على القائمين على قطاع التربية والتعليم, فضلاً عن الأسر السعودية والمقيمة التي وجدت نفسها في مشكلة خطيرة لا تحسد عليها. فشهر من الهوس والجنون الكروي تتعطل فيه كل الأشياء إلا من دوران آلة الفوز والخسارة والأهداف والبطاقات الملونة والخروج والتأهل وباقي مفردات قاموس المونديال العالمي لكرة القدم, وليت الأمر يقف عند هذا الحد, ولكن أن تتخلله ــ المونديال ــ الاختبارات النهائية بوجهها العابس الذي لا يجيد إلا لغة الأسئلة الأرقام والدرجات والمعدل والرسوب والدور الثاني, إن ما يحدث في هذه الأيام أمر يفوق طاقة الأسر في هذا الوطن الكبير. ليت وزارة التربية والتعليم فطنت ــ وهي بيت الفطنة والحكمة ــ لهذا التداخل الخطير في الموعد بين هذين الحدثين الكبيرين, المونديال الكروي والاختبارات النهائية لكل مراحل التعليم المختلفة, وكما هو معلوم فإن موعد البطولة الحالية قد أعلن عنه قبل أربع سنوات, ولكن يبدو أن وزارة التربية والتعليم, وهي الجهة المعنية بهذا الأمر تسير وفق خطة علمية ثابتة لا تحيد عنها قيد أنملة! أقول ليتها أجرت بعض التعديلات أو الإزاحات في مواعيد الاختبارات النهائية, تماماً كما فعل الآخرون عربياً وعالمياً. يزعم البعض بأن أي تغيير في المواعيد سيلحق الضرر بالوزارة وسيفقدها المصداقية والانضباطية, وسيفتح الباب على مصراعيه للتغيير والتبديل مع كل حدث مهم يحدث هنا أو هناك.
بين يدي استطلاع مثير أجرته مؤخراً صحيفة محلية حول تأثير المونديال العالمي على مستوى النجاح لطلابنا, وقد جاءت النتائج مقلقة ومخيبة للآمال, حيث أكد 65% ممن شملهم الاستطلاع أن الاختبارات لن تثنيهم عن مشاهدة المباريات حتى وإن تسبب ذلك في تدني درجاتهم أو حتى رسوبهم. كما اعترف 70% من أولياء الأمور في ذلك الاستطلاع بعجزهم عن إرغام أبنائهم على المذاكرة أثناء المباريات والتي يصل عددها إلى ثلاث في معظم أيام البطولة.
بعد أسبوعين أو أكثر ستحل بنا أزمة أخرى تُضاف إلى منظومة الأزمات الوطنية, وهي الإجازة السنوية, هذا الملف الصعب ــ رغم حضوره القوي في كل عام ــ لم نجد له حلاً شافياً بعد, تماماً كما هو الحال مع بقية ملفاتنا الساخنة والمفتوحة. وتتكرر الأسئلة: أين ومتى وكيف ولماذا نسافر؟ وهل الوجهة صوب الداخل أم لخارج الأسوار؟ هل سنتعلم شيئاً جديداً؟ أسئلة كثيرة تغيب عنها الإجابات, ويبقى سؤال المربع الأول: لماذا لا ننجح في إدارة أزماتنا؟