أمس كان يوماً حزيناً لكل السعوديين بدءاً من ملك البلاد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيزه يحفظه الله والأسرة الحاكمة وشعب المملكة العريض، بوفاة سمو ولي العهد الأمير سلطان بن عبدالعزيز رحمه الله وغفر له، بل إنني أكاد أزعم أن التاريخ سيسجل ويصف يوم أمس السبت الثاني والعشرين من شهر أكتوبر من عام 2011 بأنه كان يوماً حزيناً لكل الدول والشعوب التي شملها الأمير الراحل بمبادراته الخيرة ومواقفه النبيلة وعطاءاته الكريمة في كل الميادين. إنه يوم حزين ومؤلم للإنسانية جمعاء، بفقد رجل كبير بحجم ولي العهد السعودي، ولكنها إرادة الله وقضاؤه ولا راد لهما، وليس بوسع الجميع سوى القول الحمد لله رب العالمين وإنا لله وإنا إليه راجعون.

وإذ أكتب اليوم عن هذا الحدث الجلل، فلا يمكن لي أن أفعل ذلك دون أن أستعيد مشهداً صافياً ونقياً حدث أثناء زيارته التاريخية، رحمه الله، لجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية منتصف العام الماضي، وهو الذي لم يتمكن لظروف مرضه من حضور حفل تدشينها الكبير قبل ذلك بعام، حيث حكى لي أحد المرافقين لسموه أنه ـ أي الأمير سلطان رحمه الله ـ بينما كان على سرير المرض يقضي فترة النقاهة في المغرب، وكان التلفزيون ينقل في تلك اللحظة حفل افتتاح الجامعة على الهواء مباشرة، وكان الأمير سلطان يشاهد أخاه يستقبل زعماء وقادة دول العالم في مقر الاحتفال الكبير، وكيف تحول حلم الملك إلى حقيقة بعد ربع قرن، فأزال عنه منظر هذا الحدث التاريخي العظيم كل شعور وإحساس بالألم والوجع، فطلب سموه قلماً وأوراقاً وراح يكتب لأخيه رسالة أو برقية تفوح محبة وصدقاً واعتزازاً بمنجز ضخم كهذا، سيعبر بالأجيال الجديدة إلى الضفة الأخرى من نهر المستقبل الأفضل، لبلدنا وشعبه وللمنطقة من حولنا، وللعالم أجمع كما هي رؤية خادم الحرمين أيده الله.

لم يتوقف الأمير سلطان عند حد الكتابة والبرقية، بل إنه بمجرد أن عاد إلى أرض الوطن؛ أصر على الرغم من متاعبه وحمل المرض أن يأتي زائراً ومباركاً لهذا الصرح الحضاري الشاهق، وأذكر أنني قلت غداة زيارته التاريخية تلك إنها لم تكن مصادفة أن يختار سمو ولي العهد عشيّة الذكرى الخامسة لبيعة أخيه خادم الحرمين الشريفين مليكنا النبيل عبدالله بن عبدالعزيز، أيّده الله، موعداً لأول زيارة يقوم بها الأمير سلطان لجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، إذ لم يكن يفصل عن حلول هذه الذكرى الغالية سوى ساعات قليلة، وهكذا، وعلى طريقة الكبار، وبذوقه الرفيع والعالي جداً، كانت زيارة سمو ولي العهد لجامعة أخيه بمثابة المباركة غير التقليدية، وبمثابة التهنئة والشكر أيضاً على منجز يعد من أهم وأجمل إنجازات المليك في حقبته المضيئة.

كأنني أراه الآن وهو يطل على المكان داخل أسوار الجامعة ببهائه وألقه ونوره، ويغمر الحاضرين بابتسامته المشعة بالأمل وروح الحياة. نعم شرفتُ بحضور مناسبات سابقة لسموه، عديدة ومتنوعة، زماناً ومكاناً، فضلاً عن زيارات أخرى أتيح لي متابعتها عبر التلفزيون في السنوات الماضيات، وكان ظهوره في جميع هذه المناسبات والزيارات بذات الحضور المتألق والشفاف بابتسامته الصادقة التي يسكبها في قلب كل من يراه من الذين يعرفهم والذين لا يعرفهم، كما حدث في افتتاح هذه الصحيفة في أبها وتدشين عددها الأول قبل 11 عاماً، إلاّ أنني في زيارته الأخيرة لجامعة الملك عبدالله لم أبصره أشد فرحاً ولا أكثر سروراً ولا أجمل وأعذب ابتسامة ولا فائضاً بالبشر والانبساط والغبطة من ذلك المساء الذي حل فيه زائراً كبيراً على بيت الحكمة الجديد. كنت أراه رحمه الله يستمع بكل حواسه لنبذة مرئية عن "كاوست"، منصتاً بانتباه واهتمام يمتزجان بالفخر والزهو بإنجاز أخيه خادم الحرمين الشريفين، فيما تومض عيناه ببريق الطمأنينة على غد هذه الأرض ومستقبل أبنائها. وبعد انتهاء العرض خرج سموه في عربة الغولف إلى الساحة الخارجية لمبنى إدارة الجامعة، وتوقفت به العربة في آخر الساحة الواسعة عند المشهد المميز من موقع الجامعة قبل تلك السلسلة من الدرجات التي تنحدر وصولاً إلى البحر، وتحديداً في ذلك الموقع المطل على منارة الجامعة التي تتوسط أول البحر، هناك أع‍طى الأمير سلطان وجهه ونظره وفكره كله للمنارة التي تقف عند مدخل المرفأ الذي تطل عليه الجامعة، كان سموه يتأمل كيف تقف منارة العلم بشموخ، لتضيء الحد الفاصل بين البر والبحر، ولتكرّس المكانة المرتقبة للجامعة باعتبارها "منارة إشعاع علميّ" وباعتبارها "النبراس المضيء" الذي يسترشد به طالبو العلم والباحثون عن المعرفة.

كان سمو الأمير سلطان بن عبدالعزيز ليلتها في أوج سعادته وسروره بما رأى، وحتى لحظة مغادرته وهو يركب سيارة العودة مختتماً زيارته؛ لم يكن سموه ليكف عن الدعاء لأخيه خادم الحرمين الشريفين بالنصر والتوفيق، وكان يردد "إنها مفخرة.. الله ينصركم الله يوفقكم".. ونحن ندعو لك أيها الأمير الشهم الكريم النبيل بالرحمة والمغفرة ونيل رضوان الله وجنته.