من الواضح الآن أن تعريف الفقيه والعالم في أوساط الجمهور بات أقرب إلى نوع من العضوية التي يحصل عليها المشترك نتيجة جملة من الأفكار والمحفوظات، يصبح الخروج عنها فسخا لعقد الاشتراك ويتحول بين عشية وضحاها من عالم يحظى بالتقدير إلى رجل تصطف له المعرفات الإلكترونية قدحا وذما واتهاما، كل ذلك من باب الاحتساب ظاهريا فيما هو في واقع الأمر نوع من الصدمة التي تسببها الآراء الفقهية الجديدة التي لا تقوم على الحفظ والترديد.
مثل التقليد عقدة كبرى في مختلف أشكال الحراك الفكري والثقافي، والتجارب التي يحملها التاريخ العربي واضحة في ذلك وممتدة منذ عهد النبوة، فقد كان التقليد واعتناق السابق اعتناقا مطلقا هو الحجة التي بنى عليها معارضو الرسالة المحمدية معارضتهم تلك، بل كانت حجتهم الأبرز تلك التي تنطلق من موقف: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، والتي رد عليها القرآن الكريم في أكثر من موضع. فالتقليد لا سلطة فيه للعقل ولا للواقع ولا للاجتهاد وإنما السلطة المطلقة للسالف والموروث على مستوى الآراء والاجتهادات لا على مستوى النصوص، وأي اقتراب منه عبر إعادة قراءته أو تفكيكه إنما يمثل خدشا للذهنية التقليدية التي ترتبك فورا وتقاوم ذلك وتتجه لمعارضته.
السؤال الأكثر حضورا الآن: من الذي يبدأ المواجهات؟ الواقع يقول بأننا في دولة حديثة تتجه إلى فضاء تنموي واسع لا على مستوى العمران المادي فقط، بل لا يوجد عمران ونهضة وتنمية لا تعتمد على مراجعات فكرية تعيد تعريف الخطوط والمحددات الاجتماعية والثقافية، وتنطلق في كل ذلك من قيمها الدينية التي تمثل لها المظلة الأبرز والأكثر تأثيرا في مساراتها الجديدة، وما يحدث أن هذه المسيرة تتعرض لمجابهة واعتراض يجيد الصراخ أكثر مما يجيد الحوار، والنص الفقهي المحلي متأثر للغاية بالثقافة الاجتماعية المحلية التي يمثل التقليد أحد أبرز محاورها، وتجد نفسها كذلك أمام صدمة تترس لاتقائها بمتون وجمل فقهية جاهزة .
هنا يأتي دور العالم الشرعي الحقيقي الذي يضع الواقع جزءا من رؤاه العلمية والبحثية، وينطلق باتجاه أفكار فقهية تصالح بين الواقع وبين الفقه مستفيدا في ذلك مما يحمله القرآن الكريم، وصحيح السنة من قيم وأفكار تتجاوز الزمان والمكان لتمثل أفكارا صالحة لكل الحياة، وهذا الإجراء يستلزم منه الخروج عن التقليدي والجاهز والمحفوظ.
الأشهر الماضية كانت مؤثرة جدا في مسيرة الدرس الفقهي في المملكة، فلقد بدأت عملية أشبه ما تكون بالفرز الفقهي بين التقليد وبين العلم والمعرفة الفقهية، ولقد تعرض كثيرون من الفقهاء والباحثين الشرعيين إلى كثير من الإجحاف والقسوة أحيانا.
الكثير من القضايا التي كانت محل حوار فقهي، تدور في جانب واسع منها حول قضايا المرأة، والتي هي في حقيقتها قضية عرفية تترس بالفقه التقليدي الذي بات يدور حول الأعراف التقليدية أكثر من كونه موجها لها.
في الواقع فإن أكثر ما يصيب بالأسى هو ذلك المستوى الذي تصل إليه الردود والمحاجة ممن ينسبون أنفسهم للعلم الشرعي أمام آراء وكتابات الفقهاء المجددين الذين يحملون أمانة العلم والقول بالحق، ولقد مثلت مواقع الإنترنت الساحة الأبرز لأشكال من الهجوم والفجور في الخصومة أفقدت الساحة الفقهية كثيرا من اتزانها وأظهرتها في صورة منفعلة، ربما تكون من إيجابياتها أنها قدمت للعامة من الناس صوتين ومستويين من المعرفة الفقهية، حيث لم يعتد الناس على طالب العلم الشرعي حادا وساخطا.
لقد اتضح الآن أن الحديث عن التشدد ليس مجرد كتابات صحفية، ولكنه واقع أثبتته تلك الصدمة التي يعيشها طالب العلم المتشدد أمام الفقه المعتدل والمتزن, فالتشدد ناتج عن أدوات تفكير لا ترى في الحكم الفقهي سوى لوحة يمكن تعليقها على أي من الجدران وفي مكان وزمان، إذ لا يمثل الواقع بالنسبة لهم سوى خصم يومي متجدد عليهم أن يتصدوا له، وبالتالي يدخلون في صدام مع الحياة ومع الواقع، ثم ما يلبث ذلك الواقع أن يفرض نفسه فيتحول ذلك المحرم إلى مباح، إلا أن إباحته بدون سند فقهي، وهنا تكمن الخطورة إذ يمثل ذلك نوعا من انصراف الناس عن الاهتمام بالحكم الفقهي وبقيمة الدين كضابط لحياتهم، وهي جناية يقف خلفها الفقه المتشدد ثم يتحرك به الزمن ليجد نفسه يعدد خسائره ويعلل ذلك بأقوال لا قيمة لها، والتجربة السعودية تحمل العشرات من الأمثلة الصارخة على ذلك.
إن الأحرى بالرؤية التنموية التي تدير طموح المستقبل السعودي في مجتمع يمثل التدين أحد أبرز محاوره أن يتجه إلى دعم ومساندة الاعتدال ممثلا في الأصوات الفقهية الجديدة، تلك الأصوات التي كان بإمكانها أن تظل صامتة وخانعة للتقليد، إلا أنها تؤمن بواجبها العلمي وبمسؤوليتها الوطنية.