قبل نحو سبع سنوات طلبت مني أستاذة مادة نظريات الإعلام في جامعة بفلوريدا أن أرافقها إلى مكتبها. فور أن دخلنا إلى مكتبها باغتتني بنبأ سيئ. قالت بلا مكياج: "بحثك ضعيف جدا.. وتحتاج إلى أن تقرأ ملاحظاتي بتأن لكي تتمكن من إعادته إذا أحببت النجاح في المادة". صدمت حقا من لغتها، وأكثر من ملاحظاتها التي حاصرت كل سطر في بحثي الذي أنفقت في سبيله أسابيع طويلة. غضبتُ كثيرا من انتقادها للبحث، وعدم اقتناعها بأي جزئية فيه. خرجت من مكتبها وأنا أحمل في نفسي حقدا كبيرا عليها. وحدثتني نفسي أنها عنصرية وتمقت العرب والمسلمين ولم تجد طريقة للتنفيس عما في جوفها إلا عبر إهانتي والإساءة إليّ. وجود مدة زمنية قصيرة تفصلني عن موعد إعادة تسليم البحث لم يسمح لي بالجنوح والتفكير كثيرا بالأسباب الشخصية التي دفعتها للقيام بنقدي وتشريح بحثي. انهمكت في إعادة البحث بناءً على ملاحظاتها. قمت في الموعد تماما بتسليم البحث المنقح. بعدها بأسبوع تقريبا وصلتني رسالة إلكترونية منها تعبر فيها عن شكري على جهدي وتزف لي خبر نجاحي من المادة بدرجة جيدة. سعادتي كانت كبيرة برسالتها التي مسحت كل الحقد الذي سكنني تجاهها والأوهام التي اجتاحتني حول دوافعها.

تعلمت من درس الأستاذة الأميركية كثيرا. أدركت أن النقد والشخص شيئان مختلفان. انتقادها لعملي لا يعني انتقادها لشخصي، لكن هذا الدرس جاء متأخرا. فأنا وأنت ضحايا تعليم لم يدربنا على التفكير النقدي. نشأنا في مجتمعات لا تقبل سوى صوت واحد ورأي واحد وما سواه متمرد ودخيل. ترعرعنا في بيئة تقدس الآراء، وتشخصن أي محاولة لنقد رأي وموقف. أصبحنا نتردد ألف مرة قبل أن نطرح رأيا حول أي موضوع أو قضية إيثارا للسلامة.

إننا يجب أن نؤمن أن النقد هو وقود نهضة أي مجتمع، وفي غيابه سيسود صوت النفاق والتملق والتزلف الذي يؤدي إلى الركود والتخبط.

عندما ينتقدنا الأميركي نعتقد أن لديه مشكلة مع ديننا أو عرقنا، وحينما ينتقدنا شقيقنا العربي نشكك في نواياه ونربط رأيه بحقده على الثروات الطبيعية التي حبانا الله إياها، وإذا تصفحنا نقدا من أخينا الخليجي تكهربنا وخامرنا شعور بأنه يغار من حجم وطننا وموقعه الاستراتيجي ومكانته الإسلامية. وحتى بيننا وبين بعضنا نجد صعوبة في إسداء النصيحة وطرح النقد في إطار الأسرة الواحدة خشية الدخول في حساسيات وحسابات لا نهاية لها.

أصبحنا نحتاج إلى تمهيد طويل وتوطئة ومقدمة متشعبة قبل أن ندلي بدلونا، مما يجعلنا في أحيان كثيرة نتردد ولا نكمل ما نبدأ فيه إذا بدأنا فيه أصلا بسبب طول الإجراء وترهله. خسرنا الكثير من الوقت والجهد من أجل فكرة بوسعنا إيصالها بإيجاز ومباشرة. إن (الشحوم) لا تغزو أجسادنا كمجتمع فحسب، بل حتى أحاديثنا وخطاباتنا وطرحنا. لقد ترهلت رؤوسنا كبطوننا بأفكار أصبحنا نعيد إنتاجها دون أن نخضعها للتحليل والاختبار.

لن نصل إلى مرحلة الوعي بالنقد إلا عندما نؤصل حسن الظن ونغلبه على إساءة الظن، لنستطيع أن نتحاور بلا قيود وأعباء نفسية، ونبدأ في تنمية أوطاننا التي هي أحوج ما تكون إلى نقاشاتنا الشفافة المباشرة.

إن المتابع لمناهجنا ومنتدياتنا وملتقياتنا وحواراتنا يجدها تعج بـ(الشحوم) والحشو الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. تجدها مترعة بالديباجات التي تعكس حجم المشكلة البنيوية التي نعيشها.

إن الشحوم النفسية لا تصنع مجتمعات رشيقة تركض باتجاه تنميتها، بل مجتمعات بطيئة تراوح مكانها. لن نتغلب على هذه الشحوم إلا عندما نقتلعها من جميع مفاصل حياتنا. من خلال رفض الخطابات الكلاسيكية التي أسست لثقافة التطبيل وعدم تقبل النقد. لا شك أن النقد ليس كله خيرا، لكن وجوده ضرورة كوجود الماء والهواء.

أزمتنا الحقيقية تكمن في تغييب التفكير النقدي لعقود، مما حرمنا القدرة على الفرز الذي يمنح المرء حرية الاختيار واتخاذ الموقف من رؤية فكرية شخصية لا رؤية يقتبسها من الآخرين.

حان الوقت لنتحرر من الشحوم النفسية التي تملؤنا وتحيلنا إلى نسخ مكرورة نمطية، ترتكب الفرجة والضجر دون أن تحدث أثرا.