في عصر العولمة لا توجد صداقات سياسية مطلقة بين الدول، بل هنالك مصالح اقتصادية مشتركة. أفضل دليل على ذلك، تباطؤ حسم المواقف التفاوضية لاتفاقيات التجارة الحرة بين الدول الخليجية والأوروبية التي تتحلى بالروابط السياسية المميزة. والدليل الآخر يتضح من تغلّب المصالح الاقتصادية المتبادلة على العداوات السياسية المتأصلة بين فرنسا وألمانيا، وبين بريطانيا وإسبانيا، وبين أمريكا واليابان، وبين الهند والصين.

في الأسبوع الماضي كرر وزير التجارة والصناعة المصري المهندس رشيد أحمد رشيد رغبة بلاده في إنشاء اتحاد جمركي مع الدول الخليجية، ليكون بمثابة انطلاقة جوهرية للسوق العربية المشتركة. خلال السنوات الخمس الماضية ارتفعت قيمة التبادل التجاري بين السعودية ومصر من 800 مليون دولار في عام 2005م إلى 4000 مليون دولار في العام الماضي. هذه الأرقام تمثل 33% من قيمة التجارة بين مصر وكافة الدول العربية. كما تحتل السعودية اليوم المركز الأول في عدد المشاريع الاستثمارية بمصر، التي وصلت إلى 2270 مشروعا بقيمة 22 مليار دولار، وذلك مقارنة بعدد المشاريع المصرية في السعودية التي وصلت إلى 1150 مشروعا برأسمال مصري مقداره 750 مليار دولار.

وتزامنت تصريحات وزير التجارة والصناعة المصري مع مطالبة وزير المالية التركي الدكتور محمد شيمشيك ودعوته لكافة الدول العربية بعقد اتفاقيات تجارة حرة مع تركيا، لافتاً إلى أن قيمة التبادل التجاري بين بلاده والدول العربية تضاعفت أربع مرات في السنوات الخمس الماضية. كما شدد وزير التجارة والصناعة التركي المهندس نهات أرغون على ضرورة إبرام اتفاقية التجارة الحرة بين بلاده والدول الخليجية بأسرع وقت ممكن.

حصة الدول الخليجية لا تزيد عن 3% من قيمة التجارة الخارجية التركية التي تساوي 280 مليار دولار، علماً بأن تركيا تحتل المرتبة الثانية عالمياً في صناعة الزجاج والمرتبة الثالثة في الإنشاءات العامة والمرتبة السادسة في صناعة الإسمنت، ولكن تركيا تعتبر من أوائل الدول في تحقيق الأمن المائي والغذائي معاً، مما يجعلها قادرةً على أن تصبح المخزون الإستراتيجي للمياه والغذاء الخليجي. كما تتمتع تركيا بالخبرات التقنية في الصناعات الحربية ودخولها عالم الطاقة النووية للأغراض السلمية، عدا عن كونها عضواً في حلف شمال الأطلسي "الناتو".

وفي الوقت الذي تمتلك الدول الخليجية 36% من مخزون النفط العالمي و40% من الاحتياطي العالمي للغاز الطبيعي، فإن تركيا تستورد سنوياً أكثر من 92% من احتياجاتها من النفط بقيمة تفوق 23 مليار دولار بالأسعار الجارية.

اختيار الدول لإبرام الشراكات الاستراتيجية معها لا يخضع للأهواء السياسية والعواطف الإقليمية، وإنما ينبثق من براعة استغلالنا لأحكام المادة 24 من اتفاقية "الجات" المعنية بتجارة السلع، وقواعد المادة 5 من اتفاقية "الجاتس" المعنية بتجارة الخدمات في منظمة التجارة العالمية، لنحصل على مكاسب استثناء مزايا الشراكات والتكتلات من حق الدولة الأولى بالرعاية، وننجح في حجب هذه المزايا عن الدول الأخرى المتواجدة خارج شراكاتنا وتكتلاتنا.

كما أن المفاضلة بين الدول الراغبة في إنشاء الاتحادات الجمركية معنا لا تعتمد على مدى قدرتناعلى صدّ ورفض متطلبات هذه الدول الرامية لغزو أسواقنا الخليجية والاستئثار باستثماراتنا الخارجية، بل تعتمد في المقام الأول على مدى قدرتنا على تحديد أهدافنا ومتطلباتنا من هذه الدول وتحقيق تطلعاتنا من هذه الاتحادات قبل الموافقة المبدئية على خوض المفاوضات التجارية معها.

بمعنى آخر أكثر وضوحاً، على الدول الخليجية البدء فوراً في تحديد المكاسب المتوقعة من الاتحاد الجمركي الخليجي المصري أو الخليجي التركي أو الخليجي الأوروبي، والمفاضلة بينها. علينا أولاً دراسة الأسواق المصرية والتركية والأوروبية ومقدار التعريفات الجمركية المفروضة على المنتجات الخليجية التي تفوق 7850 سلعة. وعلينا ثانياً حصر متطلباتنا الفعلية والمستقبلية من هذه الدول ومدى قدرتنا على تأمين احتياجاتنا الماسة من زراعة وصناعة وخدمات من خلال مبادلة النفط بالغذاء، والغاز بالماء، والبتروكيماويات بالدواء، ورؤوس الأموال بالتقنية، والاستثمارات بالمعرفة. وعلينا ثالثاً فتح أسواق أوروبا عن طريق شراكتنا مع تركيا، وفتح أسواق أفريقيا عن طريق اتحاد جمركنا مع مصر، وفتح أسواق أمريكا عن طريق تحالفنا مع الصين والهند. شريكنا الإستراتيجي الأمثل هو الذي يحقق أهدافنا ويؤمن متطلباتنا سواءً كان مصر أو تركيا، أو غيرهما.