تراهم متناثرين في الأسواق، وأمام المجمعات التجارية، وبالقرب من الجامعات والمدارس كما المعاهد، ينتظرون فرصة لاقتناص "عصفورة" شاردة، أو فتاة تمنحهم أذنا صاغية! أولئك هم شبان المعاكسات، أو من يسمون باللهجة المحلية "المغازلجية"، وهم ليس لهم من غزلهم هذا سوى الاسم، كونهم يستخدمون الكلام المعسول، شبكة صيد لا أكثر، بانتظار من تأتي لتقع برجليها في هذا "الشرك" المنصوب، لتبدأ بعدها حكاية أخرى. حكاية ربما تكون عواقبها وخيمة في بعض الأحيان، خصوصا أن الأرقام في المملكة تتحدث عن نحو 8000 طفل "لقيط" هم ضحايا عمليات اتصال جنسي غير مشروع بين رجال ونساء، أخذتهم شهوة الجسد، لتفقدهم حكمة العقل، وتكون النتيجة أطفالا يضيعون في مهب الريح!

إثبات الذات

في أحد المجمعات التجارية بعسير، التقت "الوطن" شابا في العشرين من عمره، هو واحد بين آخرين ممن يمارسون معاكسة الفتيات، تحدث لنا عن تجربته قائلا "المعاكسة تجري في دمي، وأعرف جرمها وإثمها عند الله وعند الناس" إلا أن ما يدفعه لهذا السلوك برأيه هو "الشعور بالذات" لحظة وقوع "الفريسة" في شركه، معترفا بتعرضه في صغره للتحرش الجنسي، مما سبب له عقدة نفسية في تركيبة شخصيته، يحاول تفريغها كما يقول عبر هذا السلوك.

إغراء النساء

شاب آخر لقب نفسه بـ"الحيران"، يبلغ من العمر 31عاما، متزوج، ومع هذا لم يستعفف عن النظر إلى الفتيات والتحرش بهن، محملا المسؤولية إلى "الجنس الناعم" كما يقول، من خلال "اللباس الضيق، والتبرج، ورائحة العطور المركزة، وإرسال واستقبال المقاطع الساخنة"، الأمر الذي يدفعه في الذهاب بهذا الاتجاه والتماهي معهن ومع رغباتهن! ولحظة سؤالنا له "إن كان يرضى أن تتعرض زوجته أو شقيقته للمعاكسات كما يفعل"، غضب وتركنا، وراح يتسكع في أنحاء المجمع، بدلا من الإجابة على سؤالنا، فالهرب والصمت أبلغ جواب، ربما!

لقاء العشيقة

الشابان السابقان لم يكونا الوحيدين ممن التقت بهم "الوطن"، بل استطعنا الحديث مع شاب ثالث، يدعى علي، يشترك معهما في ذات الفئة العمرية، فهو في 22 من العمر. علي أخبرنا أنه اعتاد الخلوة بـ"صديقته"، تلك الصديقة التي يأتي بها السائق وينزلها أمام المجمع التجاري، حيث تدخل من البوابة رقم 1، وفور ولوجها إلى المكان، تتجه إلى البوابة رقم 3، حيث ينتظرها علي بسيارته، ومن ثم إلى إحدى الشقق، مختليا بها، ليقضيا وقتا معا وحدهما، ومن ثم يعيدها بعد فترة إلى المكان و"كأن شيئا لم يكن" بحسب قوله!

عبث وترفيه

هذه الظاهرة التي لا يختص بها المجتمع السعودي وحده، لها تفسيرها في علم النفس، حيث يرى استشاري الطب النفسي بجامعة الملك خالد في أبها، الدكتور أسامة السليمان، أن "ظاهرة المعاكسات هي نوع من الإفراط في التعبير، إذ أصبحت وسيلة للترفيه وقضاء وقت الفراغ، والتسلية بمشاعر الآخرين، والتلاعب بهم، وهنا تكمن الخطورة، إذ إن الغزل تحول من تعبير فطري عن الميل الجنسي، إلى وسيلة لإيذاء الآخرين، أو ما يسمى في عرف القانون والطب النفسي violation of others social rights أو انتهاك الحقوق الاجتماعية للآخرين". مشددا على أن "الانضباط الأخلاقي للإنسانية قد تغير، والدليل على ذلك أن ما كان مرفوضا بالأمس، أصبح مقبولا اليوم". وهو في هذا السياق يشير إلى التعامل السلبي من قبل البعض مع التقنية، قائلا إن "آفة العصر الحديث، أن الاتصال أصبح ميسرا بين الناس، فيمكن الآن للعادات والطباع والصرعات أن تنتقل بسهولة، وهذا ما نراه بوضوح في حياتنا اليوم. فإذا أضفت للميوعة الأخلاقية، توافر سبل المعرفة، كانت النتيجة الظواهر الشاذة".

دور الأسرة

السليمان يرى أنه من أجل التقليل من المشكلات الحالية، لا بد من "العودة إلى الأسرة وطرق التنشئة، لنفهم مثل هذه الظواهر"، معتبرا أن "الطب النفسي يوضح لنا أن أهم أدوار الوالدين هو زرع الضمير، والمقدرة على التحكم في الذات، وتأجيل تحقيق الرغبات في أبنائهم. فإذا وفرت لطفلك كل شيء يطلبه في حينه، كبر وليس لديه القدرة على تأجيل تحقيق رغباته والتحكم في مشاعره. كما أنك لو تسامحت معه بشكل غير محسوب جيدا، عند خطئه تجاه الآخرين، كبر طفلك أيضا وهو يستمرئ الأخطاء، وليس لديه وازع من ضمير". متسائلا "من يقوم بتربية أبنائنا هذه الأيام؟ فكثيرا ما يكون الوالدان أحدهما أو كلاهما مثل الحاضر الغائب! فأولادنا معظم الوقت أمام التلفزيون، ومنهم من هو واقع تحت التأثير التربوي للشغالات والخادمات".

ضغط القرناء

المسؤولية لا تقع على الأسر وحدها، بل هنالك ضغوط أخرى كما يرى الدكتور السليمان، حيث إن الدراسات النفسية "أظهرت أن من أكبر المؤثرات التي تشكل سلوك الفرد هو peer pressure ضغط القرناء، بمعنى أن المحيطين بك يشكلون ضغطا عليك لتتوافق معهم سلوكيا". مضيفا أنه "نتيجة للفراغ وللثورة المعلوماتية الحديثة، وتوفر سبل التواصل مع أي مكان في العالم، وبشكل مذهل، أصبح الشباب قادرين على الاطلاع على ثقافات الآخرين أولا بأول، ومن يعانِ منهم من مشكلة التقليد الأعمى، أو ضعف الوازع الاخلاقي، أو عدم وجود نشاط مفيد، فحتما سيقع في المحظور، من تكرار أخطاء الآخرين، أو محاولة تجربة ما يراه".

أسباب متراكمة

من جهته، رأى الداعية الإسلامي الدكتور محمد مصلح آل هاشل، أن "هناك ما يدفع إلى المعاكسات أحيانا من النواحي النفسية، والأسرية، والاجتماعية، والثقافية، وسبب ذلك ضعف الوازع الديني، فهو الأصل في كل مخالفة للشرع والقيم، والمبادئ التي يقوم عليها المجتمع، ولذا لو سألت شابا: هل ترضاه لأختك؟ لقال فورا لا"، مضيفا "من أسبابها أيضا الغفلة الممقوتة من بعض الآباء، والذين يتركون أحيانا فلذات أكبادهم في المجمعات والأسواق ثم ينصرفون لأشغالهم الخاصة، تاركين بناتهم فريسة للذئاب البشرية، الذين يتربصون بهن. وكذلك التربية المهزوزة والقاصرة لها دورها الكبير، وخاصة إذا تخلى راعي الأسرة عن رعيته، أضف إلى ذلك ضعف تعليم بعض الأمهات، وعدم إلمامهن بأصول التربية في ظل مشاغل الأب.

ليست ظاهرة

بالرغم من وجود شريحة واسعة من الشباب تمارس غزلها تجاه الفتيات، في أكثر من مدينة وقرية في السعودية، ورغم أن البعض يجدها "ظاهرة" تتجاوز كونها سلوكا فرديا أو جماعيا محدودا، إلا أن آل هاشل نفى تحول المعاكسات إلى ظاهرة، ولكنه اعترف بوجودها، قائلا إن "أغلب من يقع فيها هم من الشباب، إلا أن بعض من لا تسمح له سنه أن يكون من أهلها، اصطادته في شباكها، وذلك بسبب أن الميل للمرأة أمر فطري وطبيعي، ولا يحجز الإنسان عنه إلا التقوى، والخوف من الله، والشهامة والمروءة، فإذا لم يوجد هذا المانع، وقع الإنسان في أي وقت وفي أي سن، إذا تهيأت له أسباب الوقوع".

حبٌ مفقود

الباحث الاجتماعي عوض علي المقداد، له قراءته لما يدور من معاكسات، حيث يرى أنه "من أهم أسباب تفشي هذه الظاهرة، فقدان هولاء المعاكسين للحنان والرعاية من قبل أسرهم. ولو تدبرنا لوجدنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبل عليه فاطمة رضي الله عنها، فيقول مرحباً يا بنتي، ويجلسها بجانبه، وكان يقبِل الحسن والحسين ويلاعبهما، ويلاعب أولاد بناته، وكان يتكئ على عائشة رضي الله عنها، وتمشط شعره ويضحك من فكاهتها، ويأكل ويشرب من موضع أكلها وشربها، ويمازحها ويصاحبها في سفره. وهكذا قمة العطاء الإنساني يمارسه مع أهل بيته"، معتبرا أن هذا سلوك النبي صلى الله عليه وسلم ويجب أن يقتدي به الآباء، لمنح أبنائهم الحنان، كي لا يبحثوا عنه بطرق غير مشروعة.

دور الإعلام

الإعلام، الحديث منه أو التقليدي، هو أحد الأسباب التي طالما أشار لها ناقدون بأصابعهم، محملين إياه مسؤولية جزء مما يحدث من تغير في سوكيات الشباب، وهو الأمر الذي قد يعارضه عدد من الإعلاميين الذين يرون أن "الإعلام ليس هو سبب السلوكيات السلبية لدى البعض، وإنما هنالك تراكم لأسباب مجتمعة، وعوامل عدة، قد يكون لجهة هنا أو هناك دور بها"، إلا أن المقداد ألقى باللوم على ما يسميه "الإعلام الهابط" الذي حمله مسؤولية "تحريك العاطفة والجنس لدى الشباب، وتسييرها في غير مسارها الذي رسمه الشرع"، و"يضاف إلى ذلك الجفاف العاطفي والقسوة في الألفاظ من الوالدين، مما يجعل الشاب أو الشابة يفقد أهم مقومات العلاقة الأسرية، فيكونان صيداً سهلاً لأصحاب النفوس الضعيفة، وهذا يخالف المنهج الشرعي الذي يوصي بالرفق، والاهتمام بعاطفة من يعولهم المسلم ممن هم في محيط منزله".

علاج بالعقل

أساليب كثيرة ينتهجها الفاعلون الاجتماعيون للحد من سلبيات ظاهرة المعاكسة، وجهات كثيرة تقوم بمحاولة الحد من التعدي من قبل الشبان على الفتيات، ومن هذه الجهات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث أكد الشيخ بندر بن عبدالله آل مفرح، أثناء عمله ناطقاً إعلامياً لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة عسير، أن "الهيئة ومن خلال دورياتها، تعمل على رصد تجاوزات الشباب من الجنسين، في كافة محافظات ومدن ومراكز المنطقة، وفق الإمكانات المتاحة"، حيث إنها تستهدف التحرك في "جميع المواقع الساخنة، كالمجمعات والأسواق وكليات ومجمعات البنات"، كاشفا عن أن أكثر ما يواجهونه من أساليب المعاكسات هو "الترقيم، والمضايقات المباشرة، والإركاب والتي تنتهي بالخلوات المحرمة، وما يترتب على ذلك من الابتزاز"، موضحا أنهم "عالجوا الكثير من هذه القضايا بأساليب متقدمة، روعي فيها الجوانب الاجتماعية والنفسية، فيما تمت إحالة بعض القضايا لهيئة التحقيق والادعاء العام، لمعاودة أطرافها الدخول لأنفاق الجريمة، ضاربة بالستر الأول عرض الحائط".

مسؤولية من؟

آل مفرح ألقى بجزء كبير من المسؤولية على النساء، معتبرا أن "بعض الفتيات هن من يقمن بمضايقة الشباب والإيقاع بهم"، وهو الحديث الذي قد يعارضه كثيرون، خصوصا من النساء، اللواتي يعتبرن أنفسهن "معتدى عليهن" من قبل بعض الشبان، الذين لا يتورعون عن التحرش حتى بالفتيات المحتشمات.

وحول كيفية تعاطي هيئة الأمر بالمعروف مع قضايا المعاكسات، وما يحدث أحيانا من مشكلات بين أفرادها وأفراد من المجتمع، أكد آل مفرح أن " لدى الهيئة كفاءات مدربة قادرة على التعامل مع مثل هذه الأساليب". مطالبا بـ"ضرورة إيجاد مواقع لتفريغ طاقات الشباب، بإشراف كوادر مؤهلة شرعيا وثقافيا واجتماعيا، مع تجهيز هذه المواقع بالاحتياجات اللازمة للشباب، وكذلك شغل فراغ الفتيات باستقطابهن فيما يعود عليهن بالفائدة، تحت إشراف أكاديميات وداعيات، لزيادة سقف الوعي لديهن ".