بعد خمس سنوات من إلقاء القبض على الجندي الإسرائيلي، جلعاد شاليط من قبل حركة حماس، توصلت حماس والحكومة الإسرائيلية، برئاسة بنيامين نتنياهو إلى صفقة، تم بموجبها الاتفاق على مقايضة إطلاق سراح الأسيرالإسرائيلي، شاليط مقابل الإفراج عن 1027 أسيرا فلسطينيا، يقبعون منذ فترة طويلة في سجون الاحتلال، من بينهم 315 سجينا محكومين بالمؤبد.

الحدث بشكل عام، لاقى ارتياحا من قبل مختلف الفصائل الفلسطينية، وأيضا في البلدان العربية، رغم أن بعضهم تساءل عن أسباب تراجع حركة حماس عن مطالبها التي تقدمت بها في أوقات سابقة، والمتمثلة في ضم أسماء القائد الفتحاوي، مروان البرغوثي وأمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أحمد سعدات ضمن قائمة المفرج عنهم. لقد وجد هؤلاء في ما أقدمت عليه حركة حماس إنجازا منقوصا، وتراجعا عن الوعود التي قطعتها الحركة على نفسها بعدم الإفراج عن شاليط ما لم تتضمن الصفقة الإفراج عن جميع القادة الفلسطينيين القابعين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

لماذا فشلت محاولات الفلسطينيين والإسرائيليين السابقة، في التوصل إلى صفقة كتلك التي توصلوا إليها مؤخرا؟ ولماذا اختار الطرفان التوصل إلى الصفقة التي أعلن عنها في هذه المرحلة بالذات؟

ينبغي التأكيد ابتداءً، على أن المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، لم تكن متكافئة، من جهات مختلفة. فالأسرى الفلسطينيون القابعون في سجون الاحتلال، يتجاوز عددهم السبعة آلاف شخص، بينما يبقى شاليط الأسيرالإسرائيلي الوحيد لدى الفلسطينيين. بمعنى أن بإمكان الإسرائيليين أن يفرجوا عن أعداد كبيرة من الفلسطينيين، دون أن يؤثر ذلك على قوة أوراقهم، في مواجهة حماس. أما حماس، فإنها بتخليها عن الأسير شاليط فإنها تتخلى عن الأسيرالإسرائيلي الوحيد الذي تمكنت من أسره، وبتسليمه للكيان الصهيوني، لا يبقى لديها أي أسير يمكن أن تقايض عليه في أية صفقة مستقبلية. يضاف إلى ذلك، أن إسرائيل هي قوة احتلال، وجيشها يعربد يمنة ويسرة على امتداد الأراضي الفلسطينية المحتلة، واعتقال الفلسطينيين لا يمثل مشكلة بالنسبة لقوات الاحتلال. فالألف فلسطيني الذين سيتم الإفراج عنهم بموجب هذه الصفقة يمكن استبدالهم بسهولة وفي فترة قصيرة، من قادة فلسطينيين آخرين، لم تتناولهم قبضة الاحتلال بعد. هذا الأمر، مستبعد وغير ممكن بالنسبة للفلسطينيين. وإذا ما تمكنوا من تحقيق شيء مثله، فإن الأثمان التي يدفعها الفلسطينيون باهظة جدا. ولا تزال الذاكرة تحتفظ بمجريات أحداث الهجوم على قطاع غزة عام 2009م، والجرائم الوحشية التي ارتكبتها قوات الاحتلال الصهيوني بحق القطاع، والحصار الجائر الذي فرض على القطاع طيلة السنوات المنصرمة.

أخذا بعين الاعتبار هذه الحقائق، لماذا إذن توصل الطرفان إلى هذه الصفقة مع أنهما فشلا سابقا في التوصل إلى ما يماثلها؟ الجواب في يقيننا يرتبط بعدة عوامل، تتعلق بالحكومة الإسرائيلية وحركة حماس على السواء. الجامع المشترك بينها هو زمن توقيع هذا الاتفاق.

فإسرائيل تواجه معضلات رئيسة، في مقدمتها التعاطف الدولي الذي حظي به موضوع مطالبة السلطة الفلسطينية الجمعية العمومية للأمم المتحدة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة. لقد وافقت الأسرة الدولية على المقترح الفلسطيني، وتمت التوصية بعرض ذلك على مجلس الأمن الدولي، ليتم الاعتراف الدولي رسميا بالدولة الفلسطينية, ورغم أن إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما قد هددت باستخدام حق النقض لمنع صدور أي قرار من مجلس الأمن يتماهى مع الطلب الفلسطيني، فإن الأبعاد الأخلاقية قد تحققت في موافقة الجمعية العمومية للأمم المتحدة على المقترح الفلسطيني.

المعضلة الأخرى، التي تواجهها الحكومة الإسرائيلية، هي الموقف الدولي الغاضب تجاه قرار نتنياهو بناء مستوطنة إسرائيلية جديدة تضم 1700 وحدة سكنية، في القدس الشرقية، التي هي من وجهة نظر القانون الدولي أراض فلسطينية محتلة. إن موافقة الكيان الصهيوني على صفقة إطلاق شاليط، تأتي بهدف تخفيف الموقف الدولي المحتقن تجاه مواصلة نتنياهو لبناء المستوطنات الصهيونية في القدس الشرقية، وتلطيف الأجواء بإطلاق عدد كبير من السجناء الفلسطينيين، وصرف الأنظار عن استكمال بناء المستوطنة الصهيونية التي أشرنا لها. وأخيرا، وليس آخرا تأتي صفقة إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، لتحد من حركة الاحتجاجات والمطالبات الفلسطينية، التي عمت معظم المدن الفلسطينية، مطالبة بالإفراج عن الأسرى، ومهددة باندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة، في وجه الاحتلال الصهيوني، في وقت تنوء فيه أجهزة هذا الكيان الأمنية بحركة احتجاجات واسعة في معظم مدن فلسطين 48، مطالبة بمعالجة الأزمة الاقتصادية الحادة والقضاء على البطالة. وبالنسبة لحركة حماس، يجري الحديث عن جملة من الأسباب، دفعت مجتمعة لقبولها بصفقة تبادل الأسرى مع الإسرائيليين. وفي مقدمة هذه الأسباب رغبتها في إقناع "المجتمع الدولي" بجنوحها عن سياسة العنف، ورفع تهمة الإرهاب عن نفسها، تمهيدا لقبولها كطرف فاعل في أية محادثات جدية للتوصل إلى تسوية سلمية مع العدو الصهيوني، وبما يسهم أيضا في رفع الحصار المفروض على قطاع غزة.

في هذا السياق، تحضر المبادرة المصرية، الهادفة لتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية. إن هناك خشية من أن تتعثر محاولة تحقيق المصالحة بين الفلسطينيين، بسبب اعتراض الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي والكيان الغاصب على مبادرة كهذه، ما دامت حماس طرفا فيها. تحاول حركة حماس عن طريق قبول الصفقة مع الصهاينة، البروز بالمظهر "الواقعي"، الذي يمكن أن يكون مفاوضا مقبولا مع مختلف الغرماء في أية عملية سلمية مستقبلية.

هناك أيضا، عامل آخر يذكر في هذا السياق، هو أن حركة حماس خسرت بانهيار نظام العقيد القذافي في ليبيا، طرفا مساندا. كما أن أوضاع الاحتجاجات في سوريا التي يلعب فيها الإخوان المسلمون دورا مركزيا، تشكل إحراجا لحماس الخارج، التي تتخذ من دمشق مركزا رئيسا لها. إنها تحاول التعويض عن ذلك بتأكيد التزامها بالدفاع عن المعتقلين الفلسطينيين ومواصلة التزامها بنهجها المقاوم من جهة، والتلويح بقدرتها على مغادرة استراتيجياتها السابقة من جهة أخرى.

وتبقى المناقشة مفتوحة على عوامل وأسباب أخرى، يمكن متابعتها في أحاديث أخرى.