تحدثنا عن الاتصال الأول بين الحضارة العربية الفتية والفلسفة وتشكّل بعض التيارات الفلسفية، أما قدرة اشتغال هذه التيارات فكانت تتحدد بكثير من الظروف ومن أهمها موقف السلطة السياسية والدينية منها، أو موقف الثقافة السائدة المتمثلة في مزيج الدين الإسلامي مع الروح العربية مع ثقافات ما قبل الإسلام. نجد أن التيار الأول الغنوصي قد وجد قبولا وانتشارا كبيرا خصوصا في أوساط المسلمين غير العرب في المناطق الفارسية وشمال الشام رغم ما واجهه من عداء عنيف ومستميت من المدارس السنية عموما والسلفية خصوصا. هذا التغلغل الغنوصي دخل من خلال تمثيله لإرث طويل لكثير من المسلمين الجدد كما من خلال قدرته على الاندماج داخل مقولات دينية إسلامية أو من خلال ملئه لمساحات فارغة في الرؤية الإسلامية، خصوصا في شأن بدايات الخلق والإنسان والروحانيات الماورائية، ومثل هذه القضايا التي لم يعن بها الفكر الإسلامي العربي كثيرا. بل إن تأثير الفلسفة الشرقية الغنوصية قد وصل حتى إلى روايات الحديث نفسها. للمستشرق لاجنتس جولدتسيهر بحث في هذا الخصوص بعنوان " العناصر الأفلاطونية المحدثة والغنوصية في الحديث" (بدوي ، التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، صـ 218).

أما الفلسفة المشائية الأرسطية العقلانية (البرهانية بحسب الجابري) فنجد أنها بقيت محصورة في حدود أفراد معزولين بنسبة كبيرة ويعانون الكثير من مواقف رجال الدين تجاههم. يفسر البعض محدودية هذا الأثر بعدة تفسيرات، منها أن الروح الإسلامية تختلف عن الروح اليونانية، فالأولى جماعية تنفي الذاتية الفردية والثانية ذاتية فردية ترفض التماهي مع المطلقات، ولا يمكن انتشار الفلسفة دون توفر هذه النزعة الذاتية الفردية، فالفلسفة في جوهرها هذه النزعة الفردية. عبدالرحمن بدوي من أهم من طرحوا هذه الفكرة. وبرأيي أن الحديث عن روحين متنافرتين لا يقدم تفسيرات مفيدة باعتبار أنه يحيل إلى مفهوم في غاية الغموض "الروح" وكأنه أيضا يحيل إلى مفهوم دائم وأزلي، مما يوقعنا في طروحات أقرب للطروحات العرقية. الأكيد أن السياقات الثقافية والسياسية والتاريخية العربية مختلفة عن تلك اليونانية، وفي هذه السياقات تحديدا يمكننا تفسير الاختلافات من جهة والتلاقي بين الحضارتين من جهة أخرى. الكندي، الفيلسوف العربي الأول، مثلا يضعنا في قلب الحدث من خلال سرده للسياق الذي تحركت الفلسفة في عصر من خلاله. في النص التالي يعبّر الكندي عن المشاكل التي واجهتها الفلسفة بنسختها الأرسطية من الفقهاء وغيرهم، ففي كتابه إلى المعتصم بالله المعنون بـ " في الفلسفة الأولى" وفي خطبة الكتاب وبعد تعريفه للفلسفة يبدأ الكندي بتوجيه كلام في وجوب احترام الفلاسفة وما قدموه من "حق" فيقول: "ومن أوجب الحق ألا نذم من كان أحد أسباب منافعنا الصغار الهزليّة، فكيف بالذين هم أكثر أسباب منافعنا العظام الجدية. فإنهم وإن قصروا عن بعض الحق، فقد كانوا لنا أنسابا وشركاء بما أفادوا من ثمار فكرهم التي صارت لنا سبلا وآلات مؤدية إلى علم كثير مما قصروا عن نيل حقيقته". ويقول: "وينبغي لنا أن لا نستحي من استحسان الحق، واقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا، والأمم المباينة، فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق". ثم يوصي الكندي المشتغلين بالفلسفة بالاهتمام بدقة النقل والشرح واستحضار الأدلة تحاشيا لسوء الفهم الذي يصدر عن "الكثير من المتسمين بالنظر في دهرنا من أهل الغربة عن الحق، وإن توجوا بتيجان الحق من غير استحقاق: لضيق فطنتهم عن أساليب الحق، وقلة معرفتهم بما يستحق ذو الجلال في الرأي والاجتهاد في الأنفاع العامة الكل، الشاملة لهم، ولدرانة الحسد المتمكن في أنفسهم ... والحاجب بسدف سجوفه أبصار فكرهم عن نور الحق ووضعهم ذوي الفضائل الإنسانية (يعني الفلاسفة) –التي قصروا عن نيلها وكانوا منها في الأطراف الشاسعة– لموضع العداء الحربية الواترة".

سأتحدث بالتفصيل عن الكندي في المقالة القادمة ولكن ما يهمنا هنا هو الجوّ العام بأبعاده المختلفة الذي عاش فيه المشتغلون الأوائل من العرب. الكندي هنا يمثل نقطة تحول باعتبار أن الفلسفة معه لم تعد شأنا للأطباء غير المسلمين أو المسلمين غير العرب، ممن لا يقلق انتماؤهم أهل العصبة، مع الكندي العربي المسلم بدأت الفلسفة تزاحم وتطالب بحقها في المشاركة في صياغة الوعي العام. بمعنى آخر بدأت الفلسفة في إقلاق السلطات السائدة ومنها سلطة الفقهاء. الفيلسوف يرفع دعوى قدرته على تقديم معارف في الأخلاق والسياسة والاجتماع والذات البشرية. المجالات التي تتمركز فيها السلطة وتمارس من خلالها عملية تشكيل الوعي العام. الفقهاء من جهتهم حاربوا الفلسفة بدعوى عدائها للدين، والسياسيون حاربوها باعتبارها انتماء أجنبيا، ولذا سنرى كيف يكافح الكندي كثيرا في رد هاتين الحجتين. الأولى بدعوى عدم تعارض الدين والفلسفة والثانية بدعوى وجود مشترك عرقي بين اليونان والعرب. في المقالة القادمة سنتعرف على الإشكالات الكبيرة التي واجهها الكندي داخل السياق الفلسفي ذاته. من خلال الكندي يمكننا التعرف بشكل أعمق على قصة اتصال المسلمين بالفلسفة والتي أدعي هنا أنها لا تزال ذات أثر كبير على طبيعة اتصالنا بالفلسفة اليوم وهنا.