تعد البطالة واحدة من أهم المشكلات التي تواجه مجتمعنا السعودي، وهي مشكلة ما زلنا عالقين في شباكها منذ فترة ليست بالقصيرة، بالرغم من متانة اقتصادنا وارتفاع أسعار النفط بشكل مطرد وكثرة المشروعات التنموية العملاقة. ومما يزيد الأمر سوءاً هو أن لدينا نسبة كبيرة من البطالة بين الخريجين وحملة الشهادات العليا، ممن تخرجوا من داخل البلاد وخارجها.

ولهذا شرعت الدولة في محاولة إيجاد الحلول، ولهذا كان برنامج "حافز" لمساعدة العاطلين عن العمل، وذلك بتقديم مساعدة مادية مؤقتة، ثم وهو الأهم مساعدة هؤلاء في إيجاد وظيفة مناسبة. وقد قرأت تصريحاً للمهندس عادل فقيه وزير العمل يذكر فيه أن المئات من حملة الماجستير قاموا بالتقديم على برنامج حافز. هناك ألف سبب وسبب يمكن أن يطرح لأسباب بطالة المتعلمين، ونحتاج هنا إلى خريجي العلوم الإجتماعية والسكانية ليجروا لنا دراسات ميدانية دقيقة يكشفون فيها أسباب البطالة، وحتى يحدث ذلك، فسأطرح أحد هذه الأسباب التي تكررت الشكوى منها.

لدينا في المملكة عدد لا بأس به من الجامعات المحلية التي تحاول استيعاب الأعداد الهائلة من الطلاب والطالبات كل عام، وأن يوجد تنافس بينها أمر طبيعي وصحي بل مطلوب، خاصة أنه لا توجد جامعة سعودية واحدة ضمن أفضل 300 جامعة في العالم، وفي ظل تقارب الأداء والمخرجات بين هذه الجامعة. لكن أن يتطور هذا التنافس على مستوى القيادات الإدارية في الجامعات المختلفة بحيث تنتقل لا شعورياً إلى الطالب فيشعر بأنه خريج أفضل جامعات البلاد ويحتقر -وهنا المشكلة- كل خريجي الجامعات الأخرى فهذا يعني بأن الأمور تتجه للأسوأ. فهذا الطالب سيشغل منصباً ذات يوم يخوله بأن يوافق أو يرفض تعيين خريج آخر، فأول ما سينظر إليه هو هل تخرج هذا الشاب أو الفتاة من جامعتي؟ إذا كان الجواب بنعم، فسوف أقابله وأعطيه فرصة، أما إذا كان الجواب بلا، فلن يتم استدعاؤه للمقابلة الشخصية من الأساس. هل يبدو هذا الكلام غريباً وغير منطقي؟ للأسف هذا واقع، فخريج جامعة البترول يعتقد بأن الأمهات عقمن أن ينجبن مثله، وخريج جامعة الملك سعود يرفض خريج جامعة الملك عبدالعزيز، وخريج جامعة الملك عبدالعزيز بدوره يستبعد شهادات جامعتي أم القرى وطيبة وهكذا.

وإذا تركنا خريجي الجامعات الوطنية، وانتقلنا إلى أولئك الذين سافروا وتغربوا ودرسوا في أعرق جامعات العالم، على حساب الدولة ويُفترض أن أذهانهم قد تفتحت قليلاً، وأدركوا بأن التعميمات خاطئة، فسنجد بأن الوضع أكثر سوءاً، والمزعج في الموضوع بأنه ليس جديداً.

في السبعينات والثمانينات الميلادية خرجت جحافل من المبتعثين السعوديين لطلب العلم في الخارج، وتركز هؤلاء بشكل رئيسي في مدرستين من المدارس الغربية: المدرسة الأوروبية والمدرسة الأمريكية الشمالية، وحين عاد هؤلاء بأعلى الشهادات وجدنا بين الخريجين الذين درسوا على جانبي الأطلسي تنافساً غير محمود يهدف إلى التقليل من شهادة أصحاب المدرسة الأخرى، وهو تصرف لا ينم إلا عن عقدة نقص، إذ تحاول أن تعلي من قيمة نفسك بالانتساب إلى مجد جامعتك بدلاً من التركيز على قدراتك الشخصية وإمكاناتك الفردية.

وتمر عشرون سنة ويبدأ البرنامج العملاق للابتعاث وهو برنامج الملك عبدالله، والذي شهد توسعاً في أعداد الطلبة وفي الدول التي تم الابتعاث لها كذلك. فلم يعد الأمر مقتصراً على أوروبا وأمريكا بل انضمت الصين وكوريا الجنوبية واليابان وأستراليا ونيوزيلاندا وسنغافورة وماليزيا للقائمة. وهو أمر ممتاز برأيي، لأنه من ناحية هناك جامعات متميزة في أكثر من بلد خارج بلدان الابتعاث التقليدية، وأيضاً لأننا نرغب في أن يكون هناك تنوع فكري وثقافي في جامعاتنا وتفاعل مع العالم من حولنا. فهو مكسب لأي جامعة بأن يكون لديها أساتذة يتكلمون لغات مختلفة، ولديهم صلات بجامعات من الشرق والغرب، وخبرات اكتسبوها من هذا البلد أو ذاك، إلا أن الفهم القاصر، والعنصرية المدعومة بالنظرة الفوقية يمكن أن تؤديا لوأد هذه الأهداف.

فبعض الطلبة العائدين من بريطانيا وأيرلندا) (ناهيك عن المتخرجين من دول مجهولة تعليماً بالنسبة لنا كالصين أو اليابان) يشكون من رفض توظيفهم في بعض القطاعات الحكومية (دع عنك القطاع الخاص الآن)! بسبب عدم رضاء المسؤول عن الدولة وليس الجامعة التي درس فيها المبتعث. وهو أمر لا يخجل حتى من ذكره للخريج بشكل صريح، ويروي أحد العائدين حديثاً حكايته: "حين سألته عن سبب رفضه للشهادة البريطانية؟ كان جوابه بأن الدولة أوقفت الابتعاث لها مما يعني بأنها غير مقتنعة بشهادتها إلى حد ما". والحقيقة من المؤسف أن يعاني أستاذ جامعي من جهل مركب ولا يعرف بأن سبب توقف البعثات لبريطانيا مرده تكدس الطلاب السعوديين فيها لدرجة أنه أصبحت هناك فصول سعودية خالصة للغة الإنجليزية مما يقلل الاستفادة المرجوة. هذا الدكتور لا يدرك على ما يبدو أن عمر بعض الجامعات الأوروبية يكاد يبلغ الألف عام، أي قبل أن يتزوج والدا جده العاشر!

نحن هنا أمام وضع خطير وشكوى باتت مكررة، فالأمر ليس فقط بطالة وتحطيم أحلام شباب متميز وإنما هناك هدر لأموال الدولة المصروفة على برنامج الابتعاث. فإما أن يتم ابتعاث كل الطلبة لأمريكا وكندا، ما دام بعض خريجي هاتين الدولتين قد نجحوا في ترسيخ فكرة أن شهادة بلدهم هي الأفضل، وإيقاف الابتعاث لكل الدول الأخرى، وهو أمر أشك في أنه ممكن. أو أن يتم وضع قوانين صارمة توقف هذا التلاعب بمصائر الناس، وتتأكد من أن تتكون اللجنة التي تقرر توظيف الخريجين من مسؤولين تخرجوا من أكثر من جامعة أو دولة، وأن تكون مجبرة على أن تقابل كل المتقدمين إليها ممن يحملون الشهادات والمعدلات المطلوبة، بغض النظر عن كون الدارس قد انتسب لجامعة محلية أو دولية، وأن تكون المقابلة الشخصية هي الفيصل.

في مجتمع ما زال يحاول أن يتعافى من أمراضه الموروثة أباً عن جد، ويحاول جاهداً محاربة العنصرية على أسس طائفية ومناطقية وقبلية وجنسية، أعتقد بأن آخر ما ينقصنا هو أن نستبدل التعصب للقبيلة أو المنطقة بالتعصب للجامعة المحلية أو لدولة الابتعاث!