كم بقي في جناحك من ريش؟

هل بقي في جناحك ريش؟

... ... ...

كأنما لطمةٌ واحدة لا تكفي. دارت الأرضُ وانفتحَ الشدقُ يبتلعُ لحمي وأيامي. مضى الوجه الصغير ملفوفاً في الأبيض، فيما الغبار يتصاعد يشقُّ قلبي ويثقل يدي في فسحة الوداع الأخيرة. كانت العينُ مخطوفة والذاكرة مثل برق، تومض بتقطّع. أراه يحبو ثم يستقيم راكضاً لا يلتفت. دخل في الليل، طواه المحاق. الوجه الصغير لم يعد بيننا. وخزةُ الوجع تعصرُ روحي في عيدٍ تبرّأ من فضّته؛ لم يرأف بالصغار.. تركَ الجرح واسعاً في صباحٍ شاحب لا تنفكّ مرارته؛ تبقّعُ لحمي وأيامي.

مذاقُ المحنة لا يريد أن يغادر.

الأخ الكبير الذي ضربتْهُ الجلطة مجدداً وفي اليوم نفسه مع الأخ الصغير، كان يخوض في المستشفى معركته. بِركةُ الدمع يسحّها على الغائب، ونعوم معه. لم يكن يدري أن هذه البركة تتوسّع ولن تنشف.

المعركة تشتدّ، وهدنة بين وقتيْن تنقل الأخ الكبير إلى مستشفى آخر. ربّما تتأجّل ضربة المخلب. ربّما تنساه. ليس له عندنا ثأرٌ، وقدّمْنا ما يكفي من حصّة الغياب. توهمنا أننا قدّمْنا ما يكفي.

لم تكن إلا هدنة قصيرة، وانفلتَ إعصار الجلطة يضرب القلب. قال إنّ واحداً وعشرين يوماً كافية ليستأنف المنجل حصاده.

غادرَ، أيضاً، الأخ الكبير. جناحُ العمرِ يحتكّ بالأرض الخفيضة ولا سماء تحمله؛ فيخفق. وراء المغيب تناقص الريش وتهدّلَ العمر على الأكتاف.

شجرُ الوحشة يتكاثف. أيُّ منشارٍ سيقطع أغصاناً سوداء ما برحتْ تتفاقم. أيُّ بلطةٍ تدرك هذه الغابة التي ابتلعتْ شمسيْن وما زالَ ظلامها لا يُردَم؛ الظلام الماكر أتخبّط فيه ولا جهة تضمّ الجسدَ المبتور؛ تحنو على فُتات الوحيد.

انكسرَ المصباح، ولا مفتاح يدور في قفل الأيام. الصدأُ يتشعّب في الأوردة. عودُ الثقاب تلفحه الريح؛ فيذهب الضوء والهواء. تأكلني الذكريات، ولا ترحمني الأحلام. أنهرُ النومَ مخافةَ الكوابيس.. مخافةَ اندلاع الطفولةِ الخضراء التي أعرف أن حليبها جفّ وتهشّمتْ أعوادها الطريّة.. مخافةَ التراب اللدن الذي أبقيتُهُ في الكفين عندما خطوت متزعزعاً في الغياب.

... .... ...

كم بقي في جناحك من ريش؟

هل بقي في جناحك ريش؟