كتبت الأسبوع الماضي عن الحركة المسماة "احتلوا وول ستريت Occupy Wall Street" التي بدأت في 17 سبتمبر في نيويورك. وخلال الأسبوع المنصرم امتد تأثير الحركة، ليصل إلى أنحاء مختلفة من العالم، في عشرات المدن في أميركا الشمالية، والجنوبية، وأوروبا، وآسيا، وأستراليا، على شكل مظاهرات واعتصامات سلمية في الغالب، وأعمال شغب واشتباكات مع الشرطة في بعض الأحيان.
وكان من أكثرها حشداً وعنفاً مظاهرات روما يوم السبت 15 أكتوبر، حين تجمع آلاف المتظاهرين، سلميا، ولكن مجموعات صغيرة من الشباب حولتها إلى أعمال شغب: أضرموا النار في بعض المباني ومركبات الأمن، واشتبكوا مع الشرطة، مما أدى إلى جرح العشرات من الجانبين.
وقد عكست المظاهرات رسائل مختلفة في ظاهرها. ولكن ما يجمع بينها، بصرف النظر عن مكانها، ولغتها وحجمها، هو التعبير عن الإحباط بسبب الفجوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء، والبطالة، وانعدام الأخلاقيات في إدارة الاقتصاد، واتهام القطاع المالي بالمساهمة في ذلك، إن لم يكن السبب الأساسي لها. فكما هو واضح من اسم الحركة، هي موجهة أساساً ضد هذا القطاع، حيث يصب المحتجون جام غضبهم على رموزه. ففي روما هاجم المحتجون بعض البنوك وأضرموا النار فيها، وفي Greenwich Village، الحي الذي سكنتُ فيه خلال إقامتي في نيويورك 18 عاماً، اعتصم المحتجون في ساحة سيتيبانك، إلى أن أخلتها الشرطة بالقوة، مع إغلاق البنك فترة من الوقت. أما في جنوبي منهاتن، فقد دخل بعض المحتجين إلى بنك "تشيس" وسحبوا أرصدتهم وأغلقوا حساباتهم في حركة رمزية، في حين كان المئات متظاهرين أمام البنك يقرعون الطبول وينشدون الأناشيد العدائية.
وكان أحد أكبر الحشود يوم السبت تظاهرة أمام البنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت. ولهذا دلالته الرمزية، فالكثيرون في أوروبا يلومون العملة الأوروبية الموحدة (اليورو)، التي يشرف عليها هذا البنك، على الأزمة في أوروبا.
وفي واشنطن أخذت الاحتجاجات طابعاً سياسياً مصاحباً للطابع الاقتصادي، فتظاهر المحتجون أمام البيت الأبيض ووزارة الخزانة، واعتصموا في الحدائق العامة. ولكن الحركة ظلت مركزة على القطاع المالي، الذي اتهمه المتظاهرون بأنه من يتحكم في القرار الأمريكي، بصرف النظر عمن يتم انتخابه في البيت الأبيض أو الكونجرس.
وهناك تطور جديد هذا الأسبوع وهو أن بعض أقطاب القطاع المالي بدؤوا في تأييد الحركة. ولعل القارئ يعرف محمد العريان، أحد رؤساء شركة بيمكو PIMCO، إحدى أكبر وأغنى شركات تجارة السندات في العالم، ومقرها في كاليفورنيا، وتتجاوز قيمة الأصول التي تديرها تريليون دولار!
ففي مقابلة له مع موقع "واشنطن بوست"، أبدى العريان تأييداً لحركة احتلوا وول ستريت، على الرغم من أن شركته تُعتبر من أقطاب القطاع المالي! وعزا العريان رد فعله المؤيد إلى عاملين، الأول هو ما آلت إليه الحال في الاقتصادات الكبرى، خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، حين أصبح القطاع المالي قطاعاً قائماً بذاته، لا يعتمد ولا يعكس الحركة الإنتاجية في الاقتصاد. وتحول اسم القطاع من "الخدمات المالية" إلى "صناعة التمويل"، ونسي أنه في خدمة "الاقتصاد الحقيقي"، وأنه لا يتعدى كونه قطاعاً تتداول فيه الأوراق المالية التي يجب أن تعكس ذلك الاقتصاد الحقيقي وتخدمه.
أما السبب الثاني لردة فعل العريان فهو، ما شاهده من تعليقات لبعض رجال المال حول حركة "احتلوا وول ستريت" حين يصفونها بأنها حركة غير شرعية، أو هامشية لا تأثير لها. فهو يرى على العكس، أن الحركة تعبر عن الحاجة إلى إحقاق المساواة والعدالة. فحين وفرت الحكومة الأميركية مئات المليارات من الدولارات لتنقذ القطاع المالي، كان ذلك بحجة إعادة العافية والنمو للاقتصاد وإيجاد وظائف للمواطنين. ولكن ذلك لم يحدث، بل شارك المواطنون في الخسارة، ولكنهم لم يشاركوا في الربح.
وعلى العكس من بعض زملائه، يرى العريان أن الحركة مفيدة، خاصة لو استطاعت دفع صانعي القرار إلى إعادة التقييم، والعمل على تحقيق مكاسب حقيقية للاقتصاد، مثل تخفيض البطالة. وما لم يتم ذلك، فقد تصبح الحركة سلبية، محبطة، وربما عنيفة.
ولكن عند سؤاله عما يمكن القيام به لمعالجة الوضع، كان واضحاً أن إصلاح القطاع المالي ليس الوحيد. إذ قال إن سبب الأزمة التي أفرزت حركة الاحتجاج، هو التشوه في ثلاث أسواق رئيسية، أولها: سوق الإسكان، حيث تصادر البنوك كل يوم المنازل المرهونة، وهي أزمة مالية في جوهرها. والثاني: البطالة الهيكلية، أو الدائمة، في سوق العمل، وهذا هو النوع المخيف من البطالة، ويقدرها العريان بنحو 20% كمعدل حقيقي، بدلاً من المعدلات الرسمية. والثالث هو سوق الائتمان، حيث يحصل الكبار على التمويل، في حين لا تستطيع الشركات المتوسطة والصغيرة الحصول عليه.
ويشير العريان، وغيره من الخبراء، إلى أن ثمة فجوة سحيقة بين صانعي السياسة والمواطن العادي. فصانعو القرار يعتمدون على منطق الدورة الاقتصادية، ويعتقدون أنهم لو انتظروا وقتاً كافياً لمرّت الأزمة، وعاد الاقتصاد إلى وضع النمو والازدهار. أما المواطن، بعد مرور عدة سنوات منذ بدء الركود الاقتصادي في عام 2008، فقد بدأ يعتقد أن المشكلة ليست دورية، بل إن هناك أزمة هيكلية في الاقتصاد، ولا يستطيعون الانتظار إلى أن يصحح الاقتصاد نفسه بنفسه، لأنهم لم يعودوا مؤمنين بإمكانية ذلك في المستقبل القريب.
ومن هنا جاء الإحباط وحركات الاحتجاج!