"الحبّ شيء خارق! وأنا لديّ مُعجزاتي.. الحبّ إيمان! وأنا مؤمنٌ للغاية"
يرى علماء العقيدة أن الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإذا كنا مثل مازن سرحان ـ صاحب هذه الكلمات الجميلة والعنوان أيضاً ـ في رأيه أن الحب إيمان؛ فإننا لا بد من أن نرى أن الحب ليس مشاعر تنبض بها قلوبنا، بل هو أفعال لها نتائجها التي يمكن ملاحظتها وقياسها، ومن ثَمّ نعرف قدر حبنا لأشخاص ما، أو لبلاد ما، أو لأعمالنا.
أقول هذا ويرد في خاطري ما أذهل به العالم الجنرال الكسندر هيج، جبار المظهر قاسي الملامح، قدم استقالته وهو في قمة زعامته، معللاً ذلك بقوله: "إن زوجتي مريضة، ولقد عملت كل هذا لأجلها، لذا فثمار جهودي أود قطفها معها قبل أن أرحل أو ترحل هي، ليترك قيادة العالم ويقود كرسيها المتحرك" قد يقول أحدهم: إن العسكريين لا يعرفون الحب، لنرد: لو كانوا لا يعرفونه فما الذي يجعلهم يموتون من أجل تراب أوطانهم؟ أو يمضون أشهر طويلة لحماية ثغوره؟ وقد يقال: إن المقصود حب آدم لحواء، أي رجل لامرأة، وهذا أيضاً يناقض الحقيقة التي تقول: كلما كان الرجل رجلاً ـ وهذا غالب العسكريين ـ كان تعامله سامياً مع المرأة، لذا أؤمن بأنه كلما كان الرجل رجلاً بما يكفي كان عاشقاً صادقاً نزيهاً، وهذا ما تؤكده قصة الجنرال السابقة.
والحب أيضاً أن تحب عملك لا نفسك، فتجتهد فيه لأنك تريده مميزاً وعظيماً، فلا تترك فرصة لتطويره دون اقتناصها، وربما أهم من يجب أن يحبوا أعمالهم هم المعلمون والمعلمات، لأنهم إذا لم يفعلوا سيشعر بذلك الصغار خلف الطاولات، فهم متابعون لمعلميهم جيداً، حيث تضيء أعينهم بالبهجة والفهم والاستيعاب عندما يصرف المعلم وقتاً كافياً في تحضير درسه، لأنه يحب عمله ويحبهم، وذات يوم سيصادفه طبيب أو مهندس أو قائد ليقول له: "أستاذي، لقد علمتني في الصف السادس"، وسيكون ذلك أجمل هدية تقاعد يحصل عليها هذا المعلم العاشق لمهنته عندما يتذكره تلاميذه، ويتركون كل شيء ليحيّوه أو يحملوا عنه أو يقدموه على غيره، معللين للآخرين ذلك بأنه معلمهم أو معلمتهم، ولو لم يحب عمله اليوم ـ أعني المعلم ـ فلن يجد ذلك غداً.
ولو كنت في منصب قيادي ـ عزيزي القارئ ـ فسيهمنا حبك له أيضاً كما أهمنا ذات يوم حب الراحل الجميل الدكتور غازي القصيبي، رحمة الله عليه، وهو أحد أهم قياديي بلادنا الشغوفين بعملهم، أذكر أنني قرأت في كتابه "حياة في الإدارة" كيف كان يستيقظ صباحاً ويقرر زيارة مستشفى إبان شغله لوظيفة وزير الصحة، فيذهب ويقف مع المراجعين ويتحدث مع المراسلين، ويدخل الغرف المغلقة، ويزور المرضى، دون أن يشعر به مدير المستشفى ومساعدوه، إن حب غازي لعمله جعلنا نذكره كأحد أهم عظمائنا ونترحم عليه دائماً.
ويكفينا في حياتنا كلها أن أعظم من عرف أن الحب أفعال هو رسولنا صلى الله عليه وسلم، الذي كان عاشقاً وفياً رؤوفاً بزوجاته، وقائداً محباً لأمته، حتى إنه إذا ارتاع أهل المدينة واستيقظوا على ضجيج وجدوه قد ذهب قبلهم ليستطلع ويعود وهو يردد "لن تراعوا، لن تراعوا".