عندما تخرج السياسية من مهمتها الوظيفية في تسيير وإدارة شؤون البلاد وتنظيمها وتتحول إلى أداة للهيمنة والتسلط بيد حزب أو قائد أو عرق أو طائفة أو مذهب لفرض واقع معين على المجتمع، وتتحول بالتالي من وسيلة لنشر الاستقرار والرفاهية إلى وسيلة لإشاعة الرعب والتخلف والفوضى في المجتمع؛ فإنها ستتجه نحو القمع، بحيث يكون القمع من أهم ركائزها الأساسية في التعامل مع الناس. السياسة في النظام القمعي مشاعة، بمعنى أن كل شخص يستطيع بشيء من الشطارة والفهلوة والعلاقات المشبوهة، وبغض النظر عن مستواه الدراسي أوالاجتماعي؛ أن يصبح علماً بارزاً لايشق له غبار في عالم السياسة، وقد يصل إلى قمة السلطة ويتحكم في رقاب الناس، وقد رأينا كيف أن عريفاً في الجيش العراقي بالكاد يقرأ ويكتب رقي إلى جنرال بقرار سياسي، وآخر بائع ثلج أصبح نائباً لرئيس الجمهورية بلمحة بصر، والثالث عامل بريد بسيط أصبح وزيراً للصناعة!

مازال يوجد لدينا في العراق نماذج من هؤلاء، هناك ضباط كبار أكتافهم مزدحمة بالطيور والنجوم وهم لم ينهوا تعليمهم الابتدائي "والبركة كل البركة ـ طبعاً ـ في أصحاب الانقلابات الثورية من ضباط جيشنا "الأشاوس"، الذين أسسوا لأنظمة قمعية كان لها الأثر البالغ في إفساد حياتنا وتدميرها.

ولا ينسحب التأثير السلبي للنظم القمعية على الإنسان وشؤونه الحياتية وحدها بل ينسحب على كل شيء، الحيوانات والنباتات، والهواء و البحار والجمادات، فساد مطلق، "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس" حتى البلدان التي تحكمها وتخضع لسطوتها؛ فإنها سرعان ما تفقد نضارتها وحيويتها وتتجه نحو الخراب والتخلف والتصدع، شر مستطير يصيب كل من يتقرب منها أويتعامل معها ويعيش في كنفها، لا أحد بمنجى منها، حتى أولئك الذين يقيمون صرحها ويحكمون باسمها، يحترقون بنارها إن عاجلاً أو آجلاً، والشواهد كثيرة من حولنا، يمكن ملاحظتها، مهما حاول النظام القمعي أن يظهر على غير صورته الحقيقية؛ فإنه يظل لعنة تصيب كل من حوله وتفسده وتعدم فيه الحياة، وكما تعرض الإنسان العراقي للإبادة والمقابر الجماعية المنظمة على يد النظام البعثي الصدامي؛ فكذلك تعرضت أشجار النخيل "العراقي" إلى القطع والإبادة إبان حروبه ومغامراته الدموية الكثيرة مع جيرانه، (فمن مجموع ثلاثين مليون نخلة عراقية لم يبق منها الآن غير ثمانية عشر مليوناً وربما أقل) كما لم تسلم الحيوانات البرية النادرة مثل الأسود والفهود والنمور والدببة والغزلان التي كانت تكثر في جبال كردستان "موطنها الطبيعي" في يوم ما من ممارساته القمعية، فأبيدت عن بكرة أبيها ولم يبق منها الآن حيوان واحد.

ولم يشذ النظام القمعي السوري عن القاعدة، فكما بطش بالإنسان السوري ونكل به، بطش بـ"الحمير" أيضاً ولم تسلم من ممارساته غير الإنسانية، فقد بثت القنوات الفضائية صورة في منتهى البشاعة لجلاوزة النظام الفاشي وهم يقومون بإعدام مجموعة من "الحمير" المساكين بدم بارد، على مرأى ومسمع من العالم دون ذكر السبب، ولكن المطلعين على تاريخ النظام القمعي وأساليبه يعزون سبب هذه المذبحة إلى احتمالين، الاحتمال الأول أن هذه "الحمير" المساكين كانوا في طريقهم إلى الحدود هرباً من جحيم النظام، بعد أن تيقنوا أن النظام قد اقترب أجله وبات قاب قوسين أو أدنى من السقوط، فقرروا النفاد بجلدهم خوفاً من القتل العشوائي، والاحتمال الثاني أنهم كانوا بصدد تنظيم مظاهرة احتجاجية تنديداً بالإجراءات "التقشفية" التي اضطرت الحكومة إلى اتخاذها في الآونة الأخيرة كإجراء وقائي لمواجهة الانهيار الاقتصادي المتصاعد الذي تشهده المؤسسات الاقتصادية في البلاد نتيجة استمرار التظاهرات الشعبية، الأمر الذي بدأ يؤثر سلباً على مستواهم المعيشي، لذلك نظموا مظاهرة سلمية وبطريقة ديمقراطية للمطالبة برفع مستواهم المعيشي ليتساوى مع المستوى المعيشي لأقرانهم في الدول المجاورة.

وما يحز في النفس ويؤلم أن أحداً من بلدان المنطقة ـ فضلاً عن البلدان المتقدمة والمنظمات المدافعة عن حقوق الحيوانات ـ لم يحرك ساكناً للتنديد بالمذبحة، ومرت مرور الكرام وكأن شيئاً لم يكن.. باستثناء حزب واحد وهو حزب "الحمير الكردستاني" الذي انبرى للدفاع عنها، وندد بالجريمة النكراء، وطالب المجتمع الدولي بالاقتصاص من القتلة.. فقد قام أنصار هذا الحزب "العريق" (المرخص من قبل حكومة إقليم كردستان العراق منذ 13عاماً) برفع شعارات تطالب بالثأر للـ"حمير" من القتلة، وأقام لهذا الغرض معرضاً في السليمانية (ثاني أكبر مدينة في الإقليم) تحت عنوان "أنقذوا حمير سورية"، ولم يقفوا عند هذا الحد بل أطلقوا حملة على الفيسبوك لكسب التأثير العالمي للقضية.. "والله فيهم خير طلعوا أحسن من أحزاب وجهات كثيرة تدعي الدفاع عن الحرية والديمقراطية والحقوق المهضومة لكل الكائنات الحية"، ولكن عندما يجد الجد و يحتاج الأمر إلى وقفة شجاعة وموقف مسؤول، تلزم الصمت و"تطنش".