في مساء هذا اليوم من المقرر أن يدشن معالي الدكتور خالد العنقري إحدى الكليات الجامعية الأهلية في المملكة، وهو بهذا يضيف إضافة جديدة للتعليم الجامعي في المملكة. وفي الحقيقة كنت ومازلت أشيد بالتوجه الصحيح الذي يقوده الدكتور خالد العنقري في تطوير التعليم الجامعي في المملكة، وبقدر النقد الذي نوجهه للوزراء والمسؤوولين في وزاراتهم فإنه من الواجب أن نسجل الحقائق التي تؤكد أن وزارة التعليم العالي هي من أنجح الوزارات في المملكة، سواء من حيث التطوير أو الابتكار والجودة في العمل، وما يثبت هذا هو التحول الكبير في الأداء الإداري من اليدوي إلى الإلكتروني في جميع المعاملات داخل وخارج المملكة، وأصبح التعامل الإلكتروني شاملاً أكثر من مئة ألف طالب جامعي خارج الوطن. أما الجامعات السعودية فالقديم منها استطاع أن يلحق بركب التطور العلمي السريع، ويقود هذا التوجه جامعة الملك سعود والتي قفزت قفزات كبيرة جداً في مجالات الجودة والتقنية والبحث العلمي، وتبعتها في سباق معها كل من جامعة الملك فهد الجامعة الرائدة على مرالسنين مع اختلاف حجمها الصغير بالمقارنة مع جامعة الملك عبدالعزيز أو جامعة الملك سعود. وتعمل بقية الجامعات بنفس الاتجاه نحو التحول من الجامعة النظرية الروتينية إلى الجامعات الإلكترونية الحديثة، وفي ظل هذا السياق في التطور للتعليم الجامعي في المملكة دخل القطاع الأهلي كنموذج فريد، متخصص بربط مخرجات التعليم الجامعي الأهلي باحتياجات سوق العمل وربط التعليم بالتدريب، ورغم صغر حجم الجامعات والكليات الأهلية وحداثتها؛ إلا أنها استطاعت أن تحقق نجاحاً نسبياً في مجال الجودة ومجال التأهيل للتوظيف في سوق العمل، وهي تجربة حديثة لم تكن لتنجح لولا متابعة وزير التعليم العالي الدكتور خالد العنقري شخصياً، وله في كل جامعة أو كلية جامعية أهلية قصة كان هو أساس نجاحها، ورغم المعاناة التي تواجه إنشاء الجامعات والكليات الأهلية في المملكة من حيث الحصول على الدعم الذي قرر لها، إلا أن البيروقراطية الإدارية أهم وأكبر معوق لهذه الاستثمارات، التي سبق أن كتبت في الماضي عن بعض هذه المعوقات التي تدفع برجال الأعمال والمستثمرين إلى الهروب من الاستثمار التعليمي، لأنه استثمار بعيد المدى، وعوائده لا تقارن بعوائد تجارالأراضي والسيارات والسوبر ماركت ومقاولي مشاريع الدولة، وذلك نتيجة المعوقات المحبطة للاستثمار في هذا المجال. فعلى سبيل المثال تدعم صناديق الدولة المشاريع الصناعية بآلاف الملايين، وكذلك تفعل صناديق التنمية العقارية والزراعية، وينفق صندوق الاستثمارات العامة آلاف الملايين في قروض لاستثمارات التنمية في دول عربية وإسلامية أخرى، في الوقت الذي توضع الشروط المحبطة لتمويل مشاريع التعليم الأهلي الجامعي والعام في المملكة، وتؤجر الأراضي الصحراوية النائية في مناطق تنعدم فيها البنية التحتية لإقامة المشاريع التعليمية أو غيرها، والأمثلة عديدة والإثباتات موثقة، وأكبر مثال المشروع الذي يفتتحه اليوم معالي وزير التعليم العالي، والذي أنشأه المؤسسون في منطقة صحراوية بعيدة عن البنية الأساسية، لا تتوفر بها الكهرباء ولا الماء والطرق والخدمات البلدية والأمنية، مؤجرة من إحدى الأمانات الرئيسة بتعهد على المؤسسين على ألا يطالبوا الأمانة بتطبيق قرار مجلس الوزراء في تأجير الجامعات والكليات الأهلية بسعر رمزي ولفترة طويلة من الزمن، واعتذرت الأمانة والأجهزة الخدمية الأخرى عن إيصال الخدمات إلى هذه المنطقة بحجة أنها ليست من الأولويات، ورفضت الجهة الحكومية المعنية بالتمويل للمشاريع الجامعية تمويل المشروع، نظراً لعدم توفر الضمانات البنكية وعدم قبول أراضي الدولة كضمان للقرض، علماً بأن المؤسسين لا ولن يستطيعوا أن ينقلوا المباني إلى جهة أخرى بعد بنائها عند انتهاء فترة التأجير، ومع إصرار المؤسسين يقوم المشروع، ويتبنى المؤسسون تكلفة بنائه بتمويل ذاتي تجاوز المئتين وخمسين مليون، وتعمل الكليات الجامعية الأولى لمدة عشر سنوات على مولدات كهربائية وهو أمر لا يمكن تصديقه، بأن مشروعا جامعيا في المملكة العربية السعودية يدرس به أكثر من ثلاثة آلاف طالب يعمل بمولدات كهرباء خاصة، وهذا يؤكد أن الإصرار على النجاح يؤدي إلى النجاح حتماً. وهي دعوة أوجهها إلى زملائي رجال الأعمال أفرادا وشركات إلى توجيه جزء من استثماراتهم إلى التعليم النظامي والجامعي، فهو استثمار في المكان الصحيح لبناء الأجيال.
إن صناعة الرجال أهم وأفضل من صناعة البترول والبتروكيماويات، فبالتعليم نعيد بناء تاريخنا الإسلامي والعربي، الذي أسترجعه دائماً في جميع قراءاتي لأرى أمجاد الأوائل في التعليم، ومن بعض الرسائل التاريخية التي اطلعت عليها في هذا السياق؛ كانت رسالة مرسلة من ملك إنكلترا والسويد والنرويج (جورج الثالث) يقول فيها: "من جورج الثالث ملك إنكلترا والسويد والنرويج إلى الخليفة ملك المسلمين في مملكة الأندلس صاحب العظمة هشام الثالث الجليل المقام. بعد التعظيم والتوقير، فقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الضافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم، لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة، وقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة دوبانت على رأس بعثة من بنات أشراف الإنكليز لتتشرف بلثم أهداب العرض والتماس العطف، وتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم وفي حماية الحاشية الكريمة، والحدث من قبل اللواتي سوف يقمن على تعليمهن، وقد أرفقت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل، أرجو التكرم بقبولها، مع التعظيم والحب الخالص" من خادمكم المطيع جورج. أ. م.
ويجيب عليها الخليفة الأندلسي هشام الثالث برسالة يقول فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه سيد المرسلين وبعد، إلى ملك إنكلترا وأيكوسيا وأسكندنافيا الأجل: اطلعت على التماسكم، فوافقنا على طلبكم بعد استشارة من يعنيهم الأمر من أرباب الشأن، وعليه نعلمكم أنه سوف ينفق على هذه البعثة من بيت مال المسلمين، دلالة على مودتنا لشخصكم الملكي. أما هديتكم فقد تلقيتها بسرور زائد، وبالمقابل أبعث إليكم بغالي الطنافس الأندلسية، وهي من صنع أبنائنا، هدية لحضرتكم، وفيها المغزى الكافي للتدليل على التفاتنا ومحبتنا، والسلام. خليفة رسول الله في ديار الأندلس هشام الثالث" (حكم الأندلس ما بين 1026 ـ 1031).
أخي القارئ إن هاتين الرسالتين تؤكدان لنا أن ما يعتقده بعض الغربيين بأنهم متفضلون علينا بتعليم أبنائنا من المبتعثين في جامعاتهم هو اعتقاد خاطئ، وإنما هو رد جميل سابق في تعليم أبنائهم. وإذا أردنا أن نعيد أمجادنا مرة أخرى لن يكون ذلك بناطحات السحاب التي نتسابق على بنائها، وإنما بالمؤسسات العلمية المتطورة والمعتمدة على البحث العلمي والتي ستوجه أنظار العالم لنا مرة أخرى.