أثار مقطع الفيديو الذي تداولته وسائل الإعلام مؤخراً، حول قضية أمين منطقة عسير وطريقة تعامله مع أحد المواطنين، العديد من الأسئلة تتمثل في الآثار القانونية المترتبة على مثل هذا التعامل؟ وما هو الدور الرقابي للمواطن؟ ولماذا هذه التغطية الإعلامية الموسعة لهذا الموضوع بالذات؟ وهل فعلاً الإعلام يركز على النقاط السلبية ويهمل الإيجابيات كما صرّح بذلك أمين منطقة عسير؟

من الضروري في البداية قبل الإجابة عن الأسئلة السابقة أن نتطرق للأبعاد الثقافية والاجتماعية لتعامل المسؤولين مع المواطنين، ففي الماضي كانت نظرة الناس إلى الموظف العام مثل نظرتهم إلى المالك الذي يستطيع أن يعطي من ماله أو يحرم منه من يشاء دون محاسبة أو رقابة، وبالتالي لم يكن في ذلك الوقت ما نسميه الآن بالرأي العام، وهو رأي المواطنين بكافة أطيافه وفئاته، الذي يراقب الجهات الحكومية وينتقد أعمالها، أو يعتبر الموظف خادماً للوطن والمواطنين ومسؤولاً تجاههم.

ونظراً لحداثة الإدارة في ذلك الوقت، فكان كثير من الناس يجهلون الأنظمة والقوانين وطبيعة العمل الإداري، وبالتالي يجهلون حقوقهم وواجباتهم، وما لهم وما عليهم، ناهيك عن بعض القيم والعادات الاجتماعية السائدة آنذاك والمتمثلة في حق القرابة والنسب وغيرهما.

وبالطبع فإن هذه القيم والنظرة المجتمعية لم تكن قاصرة فقط على المستفيدين من الخدمات العامة أو الحكومية، بل انتقلت إلى الموظفين أنفسهم وفي سلوكهم وتعاملهم مع مرؤوسيهم والمواطنين، حتى أطلق البعض على هذه الممارسات مسمى (الإدارة العشائرية أو القبلية)، حيث يرون أن السلوك الإداري للموظف ينبثق من المجتمع الذي يعيش فيه ويستمد طبيعته منه.

وفي الوقت الحاضر، نجد بعض الآثار الاجتماعية السابقة والممارسات الإدارية المبنية على الجهل بالحقوق وبالأنظمة في بعض الجهات الحكومية، فعلى سبيل المثال عندما يقوم مواطن بمراجعة جهة حكومية ما، فإنه معتاد أن يتقاذفه الموظفون كما يتقاذفون الكرة، فيرسلونه من مكتب إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، حتى يبلغ منه التعب كل مبلغ، فيعزّيه الموظفون بقولهم "اجتهد في سبيل مصلحتك"، فإذا تعطلت معاملته هدّدهم برفع شكوى إلى مديرهم أو رئيسهم، ليجد اللامبالاة من هؤلاء الموظفين، وربما قالوا له "أعلى ما في خيلك اركبه"، فيتجه هذا المواطن المسكين إلى المدير أو رئيس الجهة ليضع حدّاً لمأساته الإدارية، وكلّه أمل أن يقوم هذا المدير بمعاقبة موظفيه وإنجاز معاملته، وهنا قد يواجه المراجع أمرين، إما أن تفتح أبواب هذا المسؤول أمامه أو توصد، وذلك حسب شخصية هذا المراجع ووضعه الاجتماعي، وهنا قد يكتشف المراجع أن هذا المدير ما هو إلا صورة من موظفيه الذين أخذوا من صفاته وسلوكه الإداري.

وهنا ربما يواجه المراجع نتيجة لجهله بالأنظمة والتعليمات مبررات لتعطيل معاملته فقد يقول له المدير إن النظام لا يسمح بذلك، أو إن الأمر يتطلب بعض الإجراءات الطويلة "والله يعينك"، وربما أيضاً يتعرّض المراجع للسخرية والتندر من قبل هذا المدير أو طرده من المكتب، وقد يواجه انتقاماً من قبل الموظفين لإقدامه على شكواهم، ومن ذلك مثلاً تضييع معاملته أو اختلاق طلبات بيروقراطية أخرى، وهنا قد يلجأ المواطن إلى الواسطة أو الرشوة لإنجاز معاملته، ويفاجأ بسهولة الإجراءات وقد تكون من قبل أصغر الموظفين!

ربما البعض منّا قد واجه مثل ظروف الحالة السابقة، وربما اختزلت في ذاكرته وسبّبت له إحباطاً وإحساساً بالظلم، وهذا هو في رأيي ما يفسّر غضب الكثير لما حدث في قضية أمين منطقة عسير.

وعلى كل حال، فإن نمو الوعي الاجتماعي والتطور التعليمي والتقني والإعلامي الذي تشهده المملكة اليوم؛ أدّى إلى تغير النظرة الاجتماعية إلى الموظف العام، وأصبح للمواطن والإعلام دور رقابي لا يستهان به، وأصبح الموظف يخشى من رقابة الرأي العام قليلاً أو كثيراً.

وفي هذا الصدد يقول الدكتور غازي القصيبي ـ رحمه الله ـ في كتابه (حياة في الإدارة) عن الدور الرقابي للمواطن ما نصه: "إن المواطنين يشكّلون هيئة رقابة فعّالة على أعمال الوزارة وموظفيها. المواطن الذي يراجع الوزير متظلماً من أن معاملته معطّلة منذ أسابيع في قسم يعطي الوزير فكرة واضحة عن كفاءة هذا القسم. والمواطن الذي يبلّغ الوزير أنه ينتظر الكهرباء من عدّة سنوات يقدم أبلغ تقرير عن فعالية الشركة المسؤولة عن الكهرباء في المنطقة، والمواطن الذي يشتكي للوزير أن موظفاً ما في الوزارة قد نهره أو شتمه أو طرده يعطي الوزير انطباعاً يختلف تماماً عن الانطباع الذي سبق أن كوّنه عن ذلك الموظف وهو يتصرّف أمامه كما لو كان تجسيداً حيّا للأدب والأخلاق".

في الحقيقة أعتبر كلمات الدكتور غازي بمثابة رسالة مهمة إلى كل مسؤول في أي جهة حكومية، تجسّد حقيقة الدور الرقابي للمواطنين، والتي يجب أخذها في الاعتبار كأولوية مهمة، ولا أبالغ إن قلت إنّ رأي المواطنين حول الخدمات المقدمة لهم تفوق في أهميتها وتمثيلها للواقع من تقارير أكبر الشركات الاستشارية.

كما لا ننسى أيضاً الدور الرقابي المهم للإعلام، فالوسائل الإعلامية لا تعمل في الفراغ، بل تعمل في سياق المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية لمجتمعها، فهي صوت المواطن وهي حلقة الوصل بين المواطن والمسؤول، كما أنها النافذة التي ينظر من خلالها المواطنون إلى مؤسساتهم الاجتماعية وإلى العالم، كما لها أيضاً دور أساسي في تكوين رأي عام يدعم المسيرة التنموية ويدعم مشاريع الإصلاح الإداري ويكافح الفساد.

وينبغي على كل مسؤول في أي جهة أن يعلم أنه مهما كانت منجزات إدارته وإن سارت خطوة إلى الأمام؛ فإن الرأي العام سار قبلها بخطوات، وينبغي على المواطن أن يكون واعياً بحقوقه وواجباته وواعياً بالأنظمة والقوانين التي تكفل هذه الحقوق.