"توكل على الله"، "موشغلك"، "تعلمني شغلي.." عبارات جارحة للأذن وخادشة لمشاعر النفس الإنسانية، وقصتنا تختصر ما تحدث به الإعلام والرأي العام عن حالتين منفردتين، الأولى منهما لأمين منطقة عسير عندما طلبه مواطن (حقوقاً) مرتين فرد بسبع عجاف "توكل على الله" والأخرى لمدير مدرسة عندما سُئل من صحفي عن مخالفة في مدرسته فرد "موشغلك"، أما ثالثتهما "تعلمني شغلي" فتجدها لدى أغلب مكاتب مؤسساتنا الحكومية والخاصة!

سؤالٌ بسيط يتناول جزءاً من تفاصيل تلك الملافظ، كم مرت على مسامعنا ألفاظ غير مسؤولة (نرضعها) لأطفالنا حتى الكبر لنثبت لهم أننا (نحن) ومن خلفنا الطوفان. في قاعاتنا الدراسية؛ كم معلم أو عضو لهيئة التدريس يخاطب طالباً أحرجه سؤاله "تعال اشرح بدلاً مني أحسن!" أو "تعال علمني شغلي"! وكم من مسؤول أو من الصفوف الأمامية لمقابلة الجمهور يقابلك بتجهم يعقبه تهجم!

كم مرة تمر على مسمعك أمثال تلك العبارات؟ وكم حادثة صافحتك بها ولم تعطل ذاكرتك عنها؟ ومواقف كثيرة سمعت بها على الأقل هنا وهناك، أما إن لم تصادفك أوتسمع بها فأنت محظوظ جداً، لأنك لم تراجع دوائر حكومية أو لم تتعرض لمنغصات حقيقية في حياتك!

تلك العبارات ببساطة هي حيل نفسية لغوية تعبر عن اضطراب داخلي وشحن نفسي، عندما يكون الشخص في حالة ضعف أو تسلط وتجعل الأنا تتفاقم لتقصي الآخر، وتعبر بتلك الحالة أعذار واهية للخروج من المأزق أو بالتعالي حتى عليه لتتحول إلى ثقافة عمل وسلوك، ويصنفها كـثير من عـلماء النفس بأنها شكل من أشكال العنف اللفظي، فالإهانات والسباب والصد والتهديد وعدم الاكتراث والتحقير، كلها من أشكال العنف المؤثر بشكل حاسم على نفسية الإنسان، وبخاصة حينما تصدر من شخصية مسؤولة، جزء من عملها العلاقات الإنسانية مع الجمهور ومواجهته.

وفي واقع مجتمعنا نجد بعضاً من الممارسات اليومية التي تجزم أننا نعيش أزمة ثقة نفسية تبدأ من الأنا، يحدها الخوف والخروج من المأزق فقط حتى اختزلها اللاوعي اللفظي لتصبح لفظة عارية الذوق منطوقة لدى البعض، وقد تدعونا إلى البحث في ذلك لنعايش سبر جزء من جزء هاد لأحد أسبابها، فالكثير يعاني ضعفاً لمفهوم الثقة نحو النفس ثم نحو المسؤولية والآخر، واليوم وفي كل العصور الإنسانية يبقى التأثر بكل جانب في التعايش في حياتنا بمقياس درجة ثقتنا ومنحنا تقديراً لأنفسنا ثم للآخرين بالتواصل الإيجابي الفعال، وعندما تكون الثقة رباطٌا قويا يشد المجتمع ويضبطه فإن التواصل ومهاراته الإيجابية كذلك مصدرٌ أساسي لتحديد السلوك وتوجيهه نحو الآخر والاستقرار في كل جانب من حياة البشر وتفاعلهم.

لذلك يرى (علماء مهارات الاتصال) أن أهم نقطة في الاتصال الإنساني هي في مهمة الاستقبال، ويرون أن صفات المستقبلين غير الفعّالين هي أهم جزء ينبغي إصلاحه في الإنسان وترويض النفس نحوه، فوصفوهم بأنهم يستجيبون بطريقة دفاعية أو هجومية، يغضبون بسرعة، ردود أفعالهم مبالغ فيها، يقاطعون الآخرين أثناء الحديث، لا يصغون جيداً ولا يستمعون ويتسرعون في التقييم والتعليق، يغيرون موضوع الحديث، يدخلون في جدال لا فائدة منه ويركّزون على الأخطاء ثم ينسحبون من الحوار، لاعتقادهم أن ذلك قدرة في التعامل مع الموقف.. فكم شخصاً نعرف ممن يحملون تلك القائمة؟

التعامل مع الناس يعتبر فناً من أهم الفنون الإنسانية نظراً لاختلاف طباع البشر. تقول فرجينيا ساتير: "الاتصال في العلاقات الإنسانية يتشابه بالتنفس للإنسان، كلاهما يهدف إلى استمرار الحياة".

وليس من السهل أبداً أن نحوز على احترام وتقدير الآخرين إلا إذا احترمنا لغتنا وتعاملنا، لأنه أصبح من السهل جداً أن نخسر كل شئ بكلمة واحدة، حتى لو كان الكرسي وثيراً ولم يتزحزح وبقي مكانه طويلاً، ولكنه حتماً خسر قلوب الناس وثقتهم.. ولكل مسؤول عن رعية: دع الشخص الآخر يحتفظ بماء وجهه ولاتؤذى كبرياءه، ولنمنح الآخرين ما نريد أن يمنحونا إياه فقط!