تزدهر اليوم تجارة التحليل السياسي. مراكز الخبرة والاستشارات تشهد اصطفافاً من قبل الحكومات في محاولة لفهم ما يحدث في العالم. هذه المراكز تعتبر مرجعية للكثير من دول العالم المتقدم. تنفذ الدراسات والأبحاث التي تعتمد قواعد البحث العلمي. تعتمد على أسس التاريخ والجغرافيا لتقدم لمتخذي القرار تفسيراتها لما يحدث في العالم. هذه المهام تصل في النهاية للقيام بعمليات "الربط " ، هذا الربط هو محور العملية كلها.
الربط بين ما حدث وما سيحدث مهارة يفتقدها الكثير من المحللين. هذا الربط هو ما يجعل من باحثي هذه المراكز نجوماً يحاول الجميع الحصول على معلومات منهم. تشارلي كوك مثلاً، وهو أحد الباحثين في المجال، يحصل على مليون ونصف مليون دولار سنوياً مقابل استشاراته، وطيبة الذكر كوندوليزا رايس تحصل على حوالي مليوني دولار في السنة من المقالات والمحاضرات. الميزة التي تجمع بين هؤلاء هي قدرتهم على الربط غير الاعتيادي.
يعتمد السياسيون على المفاجأة والبعد عن النمطية في سبيل تحقيق الأغراض التي يعترض عليها غيرهم. توجيه الانتباه إلى أحداث أو مناطق معينة يجعل العمل في مناطق أخرى أكثر سهولة. عندما كان الإعلام يتابع أعمال مؤتمر مدريد للسلام، كانت هناك صفقة يتم إغلاقها في أوسلو. في ما عرف فيما بعد "باتفاق أوسلو". الذي نشأت بناء عليه السلطة الوطنية الفلسطينية. تم التوقيع على الاتفاق بينما كان الآخرون يناقشون أموراً أخرى تخص مؤتمر مدريد للسلام.
اللجوء للعمل العسكري هو آخر ما يمكن أن تستخدمه السياسة. إلا أن هناك حالات تستدعي وجود عمل عسكري من نوع محدود. أعمال مثل قطع خطوط الإمدادات، أو تخريب المنشآت، أو إثارة القلاقل في مناطق معينة. هذه الأعمال تقوم بها مجموعات صغيرة مدربة لتحقيق الأهداف المطلوبة ومن ثم الانسحاب إلى مواقع آمنة.
اكتشفت ألمانيا واحدا من أهم أساليب التخريب في الحرب العالمية الثانية. كانت أجهزة المخابرات الألمانية تعرض مبالغ كبيرة على مجموعات من مواطني الدول التي تحاربها، وتقوم بتدريبهم لتنفيذ عمليات نوعية تتدرج من تفجير خزانات الوقود إلى تدمير خطوط السكك الحديدية أو السدود. سرعان ما تبنت دول التحالف هذا الأسلوب، الذي أصبح منتشراً بنهاية الحرب.
أوجد هذا الانتشار للعمليات التجسسية والتخريبية مجموعات كبيرة من العملاء والعملاء المزدوجين. استمر الاعتماد على هذا الأسلوب خلال الحرب الباردة بين المحورين الغربي والشرقي. سمعنا الكثير من القصص العجيبة والغريبة التي تسرد أساليب هؤلاء العملاء ، ومدى تغلغلهم في الطبقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للدول التي كانوا مسؤولين عن تنفيذ العمليات فيها. كان هناك الكثير من شخصيات جيمس بوند في الكثير من دول العالم .
استُخدِم نمط تدريب العملاء وتأهيلهم وتسليحهم في منطقة الخليج. العراق كان مسرحاً لعمليات تخريب بهدف تحقيق مكاسب سياسية لطرف أو آخر. مع تطور هذه المفاهيم أصبحت الدول والمنظمات تخطط لتنفيذ عملياتها مبكراً من خلال تدريب وتجهيز أفراد لتنفيذ مهام محددة عند صدور الأوامر لهم. العمليات قد تكون دموية، وقد تكون استفزازية، وقد تكون تخريبية بحتة. بهذا ظهر مفهوم "الخلايا النائمة".
تطور استخدام هذا الأسلوب ليصبح وسيلة للفت الانتباه. عندما تقرر السلطات السياسية أن الحاجة باتت ماسة للعمل التخريبي الذي يصرف الأنظار عما يتم تنفيذه من أعمال في منطقة معينة، أو تخفيف الضغط السياسي على دولة أو كيان آخر، فإنها تقوم بإرسال التعليمات للخلايا النائمة في مواقع أخرى.
عندما يتظاهر مجموعة من الشباب الذين يعيشون في قرية تعدادها لا يتجاوز ستة عشر ألف مواطن. تتبع محافظة توجد فيها حوالى مائة مدرسة وستة وعشرون مركزاً صحياً ومستشفيان اثنان بسعة تتجاوز ستمائة سرير. وتقع على بعد لا يتجاوز ثلاثين كيلومتراً من أبرز ثلاث جامعات سعودية، وأكبر شركات توظف السعوديين في مجال النفط والصناعات الأساسية والتحويلية. عندما يتظاهر هؤلاء في نفس الوقت الذي تم فيه احتلال دوار اللؤلؤة في مملكة البحرين، فهم يحولون الانتباه عن العمل الذي يتم في البحرين، قد يكون الربط هنا صعباً على البعض. لكن أن يعود هؤلاء للتظاهر باستخدام وسائل ومواد أكثر عنفاً ودموية، عندما يجتمع مجلس الأمن لإقرار عقوبات ضد النظام السوري بسبب ما يفعله من فظائع بحق شعب أعزل، مستخدمين شعارات ورايات مذهبية طائفية تستفز 90% من سكان الوطن الذي يحتويهم. وبمقارنة ذلك مع الأساليب التي دمرت الدولة في العراق. فهذا ليس من قبيل الصدفة.
حتى لا تنجح هذه الأعمال في تخفيف الضغط على الجلادين الذين يذبحون مواطنيهم. لا بد أن نتساءل عن العقل المدبر وموقع غرفة العمليات التي تدير هذه الخلايا النائمة، وكيف تم تدريبها، ومن يمولها، ومن يوجه لها الأوامر بالحركة، وما هي المخططات التي يراد صرف الرأي العام العالمي عنها، وأين كنا من هذا كله؟