في زمن مبكر رسم الخوارج الأنموذج التاريخي الذي أصبح يقاس عليه ما دونه من الأمثلة في تعامل الحكام مع المختلفين عن المجتمع فكرياً، ومن يقرأ في سيرة الخوارج الذين ظهرت نابتتهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال له ذو الخويصرة التميمي: اعدل يا محمد، في جرأة كبيرة جعلت الصحابة الكرام يهمون بالفتك به، إلا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منعهم من ذلك وقال: (يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية قال أظنه قال لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود) رواه مسلم من حديث أبي سعيد، فهذا خبر من النبي صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء سيخرجون ويكون الخروج على الجماعة، واستحلال الدم الحرام، وقتال أهل الإسلام من أبرز علاماتهم، وما هي إلا سنيات حتى خرجوا في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وانزووا في أماكن يعدون العدة للتكفير والقتال والخروج على جماعة المسلمين، إلا أن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أعلن مبادئ عظيمة في كيفية التعامل مع مثل هؤلاء فقال مخاطبا الخوارج في زمانه مع أنهم كانوا أشد الناس عنادا له، ومنابذة وتكفيرا: (إن لكم عندنا ثلاثا: لا نمنعكم صلاة في هذا المسجد، ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما كانت أيديكم في أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا". فكان الناس يقولون لعلي: إنهم خارجون عليك. فقال: "لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسيفعلون)، وهذا الكلام من أمير المؤمنين يعطي قواعد في أن الإنسان في حال انتظامه في الجماعة حتى لو كان يتمايز عنهم عقديا فإن له حقوقا إلا أن ينزع يد الطاعة أو يفارق الجماعة أو يقاتل، ولذلك حين قاتلوا أمير المؤمنين قاتلهم الصحابة، وعرفوا أن هؤلاء هم الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، وبشر بقتلهم، لأنهم كانوا أشد الناس على الأمة حتى من أعدائها الصرحاء، فهم قد أشغلوا الناس بصراعهم، وكانوا خنجرا يطعنون الأمة من خاصرتها، ولذا جاء في صفاتهم التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم (يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان)، وجاء في صفاتهم أنهم (حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون بقول خير البرية).
لقد كانت هذه الحقوق التي أعطاها علي بن أبي طالب رضي الله عنه للخوارج في زمانه دلالة على عدم الملاحقة بما يعتقده الإنسان ما لم يكن فيه خروج على الجماعة، وأن الخوارج الذين هم (شر الخلق والخليقة) كما وصفهم المصطفى صلى الله عليه وسلم لا يمنعون من مساجد المسلمين ولا يحرمون نصيبهم من المال، ولا يقاتلون إن لم يقاتلوا، فكانت الحكومة الراشدية مظلة تحتوي حتى هؤلاء الذين يتمايزون عنها فكرياً وعقديا، وتبذل معهم كل سبيل لمقاربة وجهات النظر، والحوار ورد الشبه التي تعلق بعقول هذه الجماعات المنتسبة إلى الأمة بالعموم، ولذا أرسل علي بن أبي طالب ابن عمه ترجمان القرآن لحوار هؤلاء والنظر فيما ينقمون على أمير المؤمنين في مناظرة شهيرة تراجع في مضامينها، وهذا كذلك منهج ناضج من أمير المؤمنين رضي الله عنه ومبكر في حوار المخالفين بأدب وعلم، وإعطاء أهل العلم الدور البارز في المناظرة وعدم المفاصلة مع الخارجين على الجماعة، والنظر في أحوالهم ومطالبهم، ولكنه كذلك كان حازماً في قتالهم حين حملوا السلاح على الأمة، وسفكوا الدم الحرام، فقطعوا الذرائع التي يتذرعون بها، فلم يبق إلا قتالهم، ولقد استبشر الصحابة بقتالهم لبشارة النبي صلى الله عليه وسلم بالأجر لمن يقتلهم، لأن هؤلاء الذين يقتلون المسلمين لا يقتلونهم وهم متأثمون، قد طغت غضبات نفوسهم فقتلوا، بل يقتلون وهم مرتاحو الضمير، وهذا هو الفرق بين القاتل العمد والقاتل السياسي، فإن القاتل السياسي يستحل ويكفر ثم يقتل، وهذا سبب الوعيد الشديد الذي جاء في الخوارج حتى حكم بكفرهم جماعة من السلف والخلف، لأنهم يستحلون سفك الدماء ويقتلون بدم بارد ونفوس لا تتحرك.
إن هذه الأشكال من الخروج على جماعة المسلمين، وإحداث الفتنة فيهم لا تقتصر على مباشرة القتل والقتال، بل تتطور بتطور أشكال الاجتماع البشري ووسائل الاتصال ليكون هؤلاء المفتئتون أدوات بأيدي الأعداء الخارجيين الذين يجيرون نشاطاتهم وجهودهم لما يحقق أجنداتهم الخاصة، فيجتمع في هؤلاء الخروج على البلاد، وهو وحده شر مستطير، ثم يكونون أدوات في أيدي الآخرين لزعزعة الأمن والاستقرار، مما ينعكس سلباً على ضرورات الناس وحياتهم، فيبوء هؤلاء بآثام متلاحقة، توجب المسؤولية السياسية على أولي الأمر التعامل معهم بحزم وشدة مقرونة بالحكمة في التعاطي مع الأحداث.
ومن الدروس المستفادة في طريقة تعاطي الصحابة الكرام مع أولئك الخارجين هو محاسبة المخطئين بعيدا عن توسيع دائرة الاتهام لتشمل الأبرياء حتى من أصحاب الفرق، فإن من الظلم البين أن تعامل طائفة بجرم من ينتسب إليها، أو تستدعى قضايا التاريخ في كل حدث يمر ويكون سببه منتسبين إلى طائفة ما، وحينئد لا بد أن يقتصر خطاب الإدانة على من يقع منه الفعل المشين بعيداً عن التحيز الطائفي أو تأجيج المشاعر تجاه مذهب أو ملة كاملة لا دخل لها بما حدث، فإن هذا هو الذي يؤدي إلى الاحتقان، ويوغر الصدور، وهذا هو ميزان الشرع والعدل: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).