يقول ميلان كونديرا في روايته البطء (أو: التمهّل) عن الحب إنه "هِبَةٌ غير مستحقّة".. يأتي بلا مقابل وعلى غير انتظار. ليس هو مكافأة على عمل ولا نظير صفة شخصيّة. هذا الوضع الغائم لـ "الهبة" يخرجها من المشروطيّة والسببيّة، ويجعل ـ الهبة ـ تنتقل من اطمئنان الاستحقاق إلى قلق الاسترداد؛ بالارتهان إلى مركبٍ تراه يسير في هدأة الريح ومنحة الأزرق، لكنك لا تدري متى تهبّ العاصفة وتضرب الأنواء؟.. لا يعود المركب حصينا ولا مصدر بهجة. باتَ خشبةً روّاغة يطوّح بها البحر كيف يشاء. لا منارة تهدي ولا شاطئ يلوح.
رحلةُ الاسترداد تبدأ. ومعها ينتثر الشغاف..وشظايا الأسئلة التي لا يُحسَن مدافعتُها؛ تنزل مدبّبةً، تخزّ وتوجع. يعذّب السؤال لأن طائرَهُ يحوم ولا يقنع بكتفٍ يقع عليها ولو إلى حين. يحوم ويصفق بجناحين هما التهلكة على مبعدة تهزّ السكين لكنها لا تنجز فعلَ الخلاص. الدوّامة بلا مركز والدّوار يتبدّى أبديّا.
مرحُ السُّكنَى ومقام الهدأة ومنزلة الأمان.. كلّها غدت مشعّثة ومحكومة بهدير المفارق. تحطّ ستارةٌ غليظة ترسم الفاصل بين الرحمة والعذاب. لا عزاء ولا سلوى.
في مقام الوحشة ورتبة العزلة، يستقرّ الجسد وتهيم الروح. ما كان، لم يكن إلا رحلة سراب، وما كان من بللٍ على الشفتين لم يكن إلا تذكار العطش القادم. لا مفازة من ذاكرة ولا ملجأ إلى نسيان.
يُحْكِمُ الغيابُ مزاليجَهُ ويتثبّت من رتج الأبواب. ولا شيء مثل الغياب في وحشيّته حارسا يتلذّذ برهينته، يسقيها مرارة الوحدة ويرميها بحجر العزلة. لا منفذ، لا هبّة هواء، وهيهات أن ينشقّ القفصُ أو تمتدّ يدٌ تفرّق كثافة العتمة وتدحر الغياب.
ثمّة نصوص إبداعية عالجتْ الغياب، لكنها نادرة تلك النصوص التي برعتْ على نحوٍ تمثيلي في تجسيد واقعة الغياب والأثر المباغِت المترصِّد.
قرأت في إحدى المجلات الأدبية القديمة نصا متجدّدا للشاعر اللبناني الراحل كمال خير بك، ينطوي على مشهديّة تختضّ بفعل الغياب؛ مشهد الفريسة الآمنة، والصيّاد يملأ الأفق بحركته المخاتلة المتربّصة تريد إحكام القبضة وسدّ المنافذ على فريستها حتى لا تسنح لها فرصة الهرب والنجاة من مصيرٍ بسبيله أن يكون محتوما، فيما الأفعال المضارعة تتناسل صعودا حاضرا في زمن الفتك. أفعال تنتهي إلى الانقضاض والالتهام، بما يحيل الفريسة إلى صورة من الوحش؛ لتتأكّد الوحشة والإفراد:
(ها غيابك يأتي/ ها غيابك يأتي بطيئا كخطوة الشبح/ يمدّ رأسه من نهاية الممر/ ويُقْبِلُ نحوي/ يقف قليلاً، يتمدّد كالفهد على العتبة/ ثم يثبُ كالرمح باتّجاه القلب/ ليمنحني فراءَهُ الليلي وأنيابهُ الساطعة./ .../ بيني وبينك الآن/ سلالم وقارّات).