ما يلفت الانتباه حقاً في ثورات الربيع العربي، العداء المتأصل للعولمة، علماً بأنها هي التي أتاحت للثوار تنظيم الصفوف وتداول المعلومات عبر شبكة "الإنترنت" التي تشكل ركن العولمة الرئيس في الاتصالات.

"تشيلي" في جنوب أميركا، كانت أول من بدأ الثورات الشبابية في عام 1968 التي نجحت في انتخاب الرئيس "سالفادور أليندي". وفي عام 1989 شهد العالم سقوط جدار "برلين" ومجزرة ساحة "تيانانمن" بالصين. الربيع العربي جاء مختلفاً، لأنه كان موالياً لليسار واليمين وطال كافة فئات الشعوب الغنية منها والفقيرة، المحافظة منها والعلمانية. وهذه الثورات تتكرر اليوم في مختلف أنحاء العالم وبظروف مماثلة. فالشباب الثوري لا يسعى إلى تسلم السلطة أو تقويض العولمة الرأسمالية، بل لإصلاح النظام السياسي والحد من تردي الأوضاع الاقتصادية.

في الأسابيع الماضية عمّت ثورات "حركة الشباب الغاضبين" شوارع اليونان وانتشرت مظاهرات احتلال "شارع وول ستريت" في "نيويورك"، واستشرى الغضب في الشارع اليهودي بسبب وطأة "غلاء المعيشة" في إسرائيل. على غرار الربيع العربي، بدأت هذه الثورات من خلال شبكات العولمة الفضائية، مثل "الفيس بوك" و"تويتر" وغيرها من شبكات "الإنترنت".

كما بدأ موسم ثورات الربيع العربي في تونس ومصر واليمن وسورية بسبب تردي الأحوال الاقتصادية؛ اهتزت الشعوب الأوروبية تحت وطأة "اليورو"، واستشاط غضب سكان اليابان من تفاقم ديونهم، وانتشرت مظاهرات "الياسمين" الأميركية لتطالب بإسقاط النظام المالي ومحاكمة المتسببين في الانهيار الاقتصادي.

في عام الربيع العربي، لاحت بوادر فشل الرأسمالية وضعف الأنظمة المالية العالمية وتواطؤ الشركات متعددة الجنسية. في أميركا فاق الدين العام 15 تريليون دولار هذا العام، لتتساوى قيمته مع قيمة التجارة العالمية، التي تعادل 20% من إجمالي الاقتصاد العالمي. خلال العام الجاري شهد الاقتصاد الأميركي انكماشاً قاسياً، وانخفض معدل الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1% بعد تراجع فاق 6% خلال الربع الأول من هذا العام.

وبالرغم من ارتفاع مؤشر "داو جونز" بنسبة 17% منذ تولي الرئيس "أوباما" مقاليد الحكم في البيت الأبيض، إلا أن الاقتصاد الأميركي خسر أكثر من 3 ملايين وظيفة في نفس الفترة، وارتفع معدل البطالة من 7% إلى 9%. ومن المتوقع أن تصل هذه النسبة إلى 11% بنهاية العام الجاري. في الربع الأول لهذا العام، تلاشى 2 تريليون دولار من ثروات الشعب الأميركي في شارع "وول ستريت"، وتراجعت حقوق المساهمين بقيمة 5 تريليونات دولار، ليشكل هذا التراجع أسوأ انخفاض يشهده التاريخ الأميركي.

وفي أوروبا ارتفع الدين العام خلال عام الربيع العربي إلى 3 تريليونات يورو، وفشل الناتج المحلي الإجمالي لأكبر اقتصاديات منطقة اليورو الأوروبية، التي تضم 16 دولة، في تحقيق نمو يذكر. في ألمانيا وفرنسا انخفض الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من 0.5%، بينما سجل انكماشاً بنسبة 3% في بريطانيا و2% في إيطاليا و4% في إسبانيا. كما يتوقع أن يؤدي الارتفاع المتواصل لسعر صرف "اليورو" إلى كبح جماح نمو الاقتصاد الأوروبي.

وفي الوقت الذي انخفض مؤشر الاستهلاك عالمياً بنسبة 5%، وتراجعت معدلات الإنتاج بمتوسط 30%، ارتفعت معدلات البطالة الأوروبية لتفوق نسبة 10%. ومن المتوقع أن يستمر الاقتصاد الأوروبي في الركود رغماً عن استمرار المصارف الأوروبية في خفض نسب الإقراض، ومثابرة الخطط الحكومية على دعم مؤسساتها الإنتاجية. وكما تراجعت أسواق المال في دول الربيع العربي، تراجعت مؤشرات أسواق المال الأوروبية في الأسبوع الماضي بنسب متفاوتة، وصلت إلى 3% في فرانكفورت.

في عام الربيع العربي، فاق الطلب على الذهب من البنوك المركزية جميع التوقعات، ليسجل ضعف مستواه المعهود في عام 2010، حيث بلغ 190 طناً خلال الأشهر السبعة الماضية من العام الجاري، مما أدى إلى ارتفاع أسعاره العالمية، وتسجيله مستويات مرتفعة فاقت جميع التوقعات ليلامس 2000 دولار للأونصة بنهاية 2011. مخاوف المستثمرين من أزمة ديون منطقة اليورو في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا، أدت إلى فرض قيود مالية جديدة مع قلق الأسواق من خفض التصنيف الائتماني لإيطاليا وإسبانيا وربما فرنسا أيضاً.

عام الربيع العربي شهد أيضاً ارتفاع ديون اليابان السيادية إلى 200% من قيمة ناتجها المالي الإجمالي، مما اضطر الحكومة اليابانية إلى اتخاذ إجراءات تقشفية فورية أتاحت خروج ثاني أكبر اقتصاد في العالم من أطول فترة انكماش يواجهها منذ نصف قرن. أما الناتج المحلي الياباني فقد شهد تراجعاً قاسياً ليصل إلى نسبة 1% فقط خلال العام الجاري، وشهدت البطالة نسبة بلغت 5%.

وفي إسرائيل خرج 400,000 نسمة في مظاهرات حاشدة في 10 مدن، أهمها القدس وحيفا وتل أبيب، يطالبون بالعدالة الاجتماعية وتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وتخفيض أسعار المساكن التي ارتفعت بنسبة 32% والضرائب على المواد الاستهلاكية التي فاقت 17%. تعاني إسرائيل من خلل في توزيع الثروات، علماً بأن دخل الفرد الإسرائيلي يعادل 18 ضعف دخل الفرد المصري و10 أضعاف دخل الفرد السوري و8 أضعاف دخل الفرد الأردني. كما يبلغ نصيب المواطن الإسرائيلي من اقتصاده القومي 10,920 دولارا في حين لا يتجاوز نصيب المواطن المصري في اقتصاده القومي أكثر من 600 دولار.

عدوى الربيع العربي ستلحق بالدول التي لا ترعى مصالح شعوبها.