-1-

مما لا شك فيه، وما لا تُخْطِئُه العين ولا يُخْطِئُه البصرُ والبصيرةُ، أن هناك عاملين موضوعيين يُغيّران عالمَ اليوم: ثورة المعلومات والاتصالات، ومشاركة المرأة مشاركة جادة وفعّالة في بناء المجتمعات، التي كانت تشكو في الماضي من العمل برئة واحدة (الرجل)، فأصبحت اليوم، تعمل برئتين (الرجل والمرأة)، فتعافت هذه المجتمعات، وبدأت تُنتج أفضل من السابق. وهذا فرض على البشرية معايير دولية جديدة، وتحولات لا عهد لها بها، تتطلب - حتماً - إعادة هيكلة الاقتصاد، وهيكلة الدولة، عبر تحديث التعليم، وعبر تموضع المرأة من جديد في المجتمع، ومن خلال دور "الفولاذ والحرير" معاً في بناء المجتمع.

-2-

إن المتشددين والمتطرفين يترددون طويلاً، ويخشون كثيراً، في أن تكون المرأة (الرئة الثانية المعطلة) قائماً من قوائم خيمة المجتمع الكبيرة، بما أن هذا القائم، يعني تغيير المعادلات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية كذلك. فدور المرأة في المجتمع كالحياة نفسها: فرص ومخاطر، وعد ووعيد. ومن وعود دور المرأة في المجتمع تفكيك البُنى التي أبطأت في ظهور الفرد القادر على اختيار قيمه بنفسه باستقلال نسبي، والمتحرر من ركام المحاذير الجمعية، التي ما زالت تفرض على الإنسان – وخاصة المرأة – وضعاً دونياً يلازمه من المهد إلى اللحد، ويمنعه من اختيار نمط حياته، وهويته الشخصية، ومن العمل والتفكير بنفسه، ولحساب نفسه.

-3-

في عالم اليوم، عالم الإنترنت، وثورة المعلومات، والاتصالات، أصبحت الحرية هي التي تذهب للمرأة وتبحث عنها، وليست المرأة هي التي تبحث عن حريتها. وأصبحت وسائل العمل والاتصال والتعليم متاحة للمرأة، كما لم يسبق لها مثيل في الماضي. ويقول هذا القول الباحث الألماني كارستين ويلاند في كتابه (سورية: الاقتراع أم الرصاص؟) وهو يتحدث عن المرأة السورية، ولكن حديثه ينطبق – تقريباً - على باقي المجتمعات العربية، والنساء العربيات عامة. بمعنى أن كل وسائل الحرية من خلال الإنترنت، وثورة المعلومات، والاتصالات، أصبحت متوفرة للمرأة، لكي تمارس حياتها بحرية وبمسؤولية كذلك. ولم تعد المرأة سجينة بيتها، لا تخرج منه إلا إلى القبر، كما فُرض عليها في سابق الأيام. فهي تطوف العالم دون حاجة للخروج من بيتها، وأن الفجوة بالتالي بين دعاة بناء المجتمع بـ "الفولاذ والحرير" معاً، وبين دعاة بناء المجتمع بالفولاذ فقط قد اتسعت وكبرت. ولكن يبقى أن حركة التاريخ تقف إلى جانب أولئك الدعاة ببناء المجتمع بـ"الفولاذ والحرير" معاً، وليس الاكتفاء بالفولاذ كما يقول الطرف الآخر، فهذا ما لا يريده التاريخ. وفرض ما لا يريده التاريخ يعني فرض ولادة قيصرية، لا يمكن لها إذا تحققت إلا أن تكون إجهاضاً قاتلاً للجنين، والأم معاً. وهذا ما نُطلق عليه "النكوص السابح ضد تيار العصر". فبناء المجتمعات بـ "الفولاذ والحرير" معاً، هو اتجاه العالم وإرادة التاريخ المعاصر.

-4-

ولكن كيف السبيل إلى بناء المجتمعات – خاصة المجتمعات العربية – بـ "الفولاذ والحرير" معاً؟ إن ذلك لن يتحقق إلا بالتعليم العصري الحديث، الذي يستجيب لمتطلبات بناء المجتمعات، دون أن يكون ترفاً أو تزويقاً لشعارات سياسية واجتماعية. فلا أحد ينكر دور التعليم في تمهيد الطريق إلى بناء المجتمعات الراقية والمتقدمة. والتعليم العربي مدعوٌ اليوم - أكثر من أي نظام تعليمي آخر في العالم - إلى إدراج مادة حقوق الإنسان، وحقوق الطفل، والمرأة، في برامج التعليم. فلا شيء مُجدٍ كتدريس حقوق الإنسان لمكافحة التعصب، وكراهية وعداء الآخر، واحتقار الحياة الذي يتعلمه الصغار منذ نعومة أظفارهم. ولا غنى أيضاً عن إدخال العلوم الإنسانية إلى جميع فروع التعليم خاصة العلمية، ذلك أن هذه العلوم هي التي تعطي حياة الإنسان قيمة ومعنى.

-5-

أما بُناة مثل هذه المجتمعات فهم المثقفون. وعلى المثقفين أن يقوموا بدورهم في مهمة بناء المجتمع بـ"الفولاذ والحرير" معاً. لأن المثقف - تعريفاً - مع الحداثة وضد القدامة، ومع العقل ضد النقل، ومع التجديد ضد التقليد، ومع الديموقراطية ضد التوتاليتارية، ومع حرية المرأة ضد استعبادها. والمثقف – بالتالي - هو "ضمير الأمة". ووقوف المثقف إلى جانب دهماء الأمة ضد الحقيقة، يُعتبرُ خيانة المثقف لأمته. وقد أطلق على ذلك الكاتب الفرنسي جيل باندا صفة: "خيانة المثقفين". وهؤلاء المثقفون هم الذين يتطابقون مع ضمائر أمتهم الخربة، بدلاً من التطابق مع الحقيقة، والقيم الإنسانية والعقلانية، حتى لو جرّعهم ذلك السم الناقع الذي تجرّعه سقراط. ذلك أن شعار: "أمتي دائماً على حق"، شعار شوفيني، لا يليق بالمثقفين، بل بالمتعصبين لأممهم، أو لفريق الكرة المحبب لديهم.

-6-

يؤكد المفكر التونسي العفيف الأخضر، أن هناك مسائل ثلاث لها الأولوية على جميع الأولويات في العالم العربي وهي : تحديث الاقتصاد، وتحديث تموضع المرأة، وتحديث التعليم. فإذا كان التعليم اللاعقلاني السائد في العالم العربي، يُعرِّف المرأة بأنها "ناقصة الأهلية"، فعلى التعليم العقلاني المنشود، أن يُعيد تعريف المرأة إيجابياً. وهذا يتطلب التركيز على النصوص المقدسـة كالآيـة الكريمـة: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) (الروم:21).

-7-

إن مؤسسات التعليم في العالم العربي – للأسف الشديد - لم تجدد في المواد التي تُعلِّمها لطلبتها. وهي متهمة بغسل أدمغة طلبتها بأدبيات القرون الوسطى، بكل ما تحمله من أوهام وأحكام مسبقة ضد المرأة وضد العقل. ولكن، من السخف تجريم هذه العصور، فقد كانت منطقية مع نفسها وظرفها التاريخي. ولكن من الإجرام في حق مستقبلنا ومستقبل أبنائنا، تقديم هذه الأدبيات الغابرة في مدارس اليوم وجامعاته، كحقائق عابرة للتاريخ، كما لو أنه لم يجدَّ أي جديد في ميدان الفكر الاجتماعي، منذ قرون طويلة. فهل بإمكان أي عاقل في العالم العربي، أن يتصوَّر أن أبا حنيفة، ومالك، والشافعي، ونجم الدين الطوخي، والشاطبي، وغيرهم، يمكن لهم أن يكسروا أقلامهم، ويخيطوا أفواههم، لو بقوا أحياء إلى الآن، قائلين لنا: حسبكم ما قلناه لكم قبل قرون، فلا جديد اليوم تحت الشمس!