يُنظر إلى الفكرة على أنها كتعريف لغوي (اسم مرة)، وتجمع على (فِكَر)، وهي كل ما قد يخطر في العقل البشري من أشياء، أو حلول، أو اقتراحات مستحدثة، أو تحليلات للوقائع والأحداث حسب (موسوعة الويكيبيديا)، فالفكرة في أصلها الفعلي هي نتاج طبيعي لعملية التفكير، والتفكر. والفكرة في نظري هي حالة عصيان وتمرد مدهش وقسري على دائرة ونظام المألوف والنمطية، يفرض ظهورها الاحتياج. حيث تنفجر وتتبلور فجأة خارج نطاق السيطرة والمنطق، لتعبر عن نفسها في حرية لا تتقيد بالزمان أو المكان أو الشكل. ومتجهة دائماً للأمام تاركة ما خلفها كتاريخ منقضٍ ومقيد في إطار الزمكانية. وتبدو في كل تحركاتها واندفاعها ونواياها كالمتواطئة مع الفوضى أحياناً إن جاز لنا التعبير، وهي أقرب إلى ذلك بالفعل عند بداية نشأتها في طريقها إلى التخلق. ولأن الفكرة تعتبر خلاصةً منطقيةً لسلوك التفكير المنضبط لا الفوضوي، فإنها تفرض هيئتها وشكلها في حال اكتمالها على قوانين البناء والهدم، التي تتبع نمطا واتجاها معينا لتفكير ما، منطلقة باندفاع خارق من أجواء النسبية العاقلة التي تشكلت فيها، إلى الفضاء التحرري الذي يرفض القيد والانغلاق والحجر. وهذا السلوك هو سلوك متمرد صريح ومباشر، ليس خاضعاً للطريقة. وتنتج الفكرة تبعاً لطريقة التفكير سلباً أو إيجاباً. فالفكرة الإيجابية هي نتيجة لطريقة التفكير السليمة والعكس صحيح أيضاً.
ولتحقيق الفكرة كتجسيد على أرض الواقع متمتعة بصفات خلاقة ومضيفة لما قبلها؛ فإنه يجب الاحتفاء بطريقة التفكير أولاً، والتأكيد على توخي آلية صحيحة تضمن تحقيق الهدف (الفكرة) في قالبها النهائي المتضامن مع الطريقة. وأي شذوذ عن نهج التفكير قد تكون النهاية مخيبة للآمال. لذا يُعتبر التفكير نوعاً من أنواع الفنون، يتغير تبعاً لتغير الحالة المستهدفة، ويأخذ في مهامه نقطة الخلوص إلى الفكرة بشكل محدد نسبياً، يتنامى على مهل وغير متواطئ مع الفوضى بشكل كبير، حتى تلك التي توصف بالخلاقة منها. ويجب تهيئة الأمر لحدوث ذلك من خلال سحب العقل لمنطقة معينة تسمح له بالدخول إلى حالة من الإخلاص لأجواء التفكير غير المعلن، ليكون الناتج هو ولادة الفكرة وخروجها من العالم النسبي إلى العالم الكوني الذي تأخذ فيه فيما بعد مكانها وشكلها الحقيقيين، وكذلك تأثيرها فيما بعد. ولكي يثبت حدوث ذلك لا بد من توفر عوامل وأجواء معينة تتطلبها عملية التفكير لتأخذ هيئتها الصحيحة، ويكون ناتجها إيجابياً. لذلك فالقول بفن التفكير، منطق سليم تفرضه الحاجة للوصول لمضامين الفكرة ذاتها. ويظهر (التحليل المنطقي) في صدارة الاحتياجات، ثم (النقد الحر)، فالمصادر بكل اختلافاتها وتنوعها، ثقافية وعلمية واجتماعية وبيئية. وفي ظل غياب هذه المتطلبات، فإن الاستنساخ سيكون سيد الموقف في كل محاولة للدخول في وفاق مع الفكرة.
ونحن العرب مازلنا نبحث ونحاول التوصل إلى مفاهيم قادرة على وضعنا في أجواء مناسبة للتواصل مع مضمون ومعنى الفكرة. لكننا في الواقع نقوم بذلك بطريقة تبدو غير جدية في أغلب الأحيان، لذلك تكون النتيجة غير موفقة ولا يحالفها النجاح. لأن واقع البدء والانطلاق نحوها يغلب عليه الاستجداء والتوسل لتسقط محاولاتنا غالباً في مستنقع النوايا التآمرية المسبقة، لننجرف تبعاً لذلك السلوك إلى منطقة اللاوعي، وهي (الجهة الخطأ) في سلوك التفكير السليم كما يقول علماء التأمل، ما يجعل حالة التفكير تبتعد عن تحقيق الأهداف الإيجابية كنتيجة، ضاربين عرض الحائط بالسلوك المنظم للتفكير قبل الوصول إلى الفكرة أياً كانت، نحن العرب لا نثمن قيمة الفكرة، ولا نمنحها المساحة الكافية من حالة وعينا بالمطلوب، ولا نتواصل مع الطريقة الإبداعية للتفكير بصدق. وهو ما يسلب منا متعة التماهي مع الزمان والمكان في آنٍ معاً، وبالتالي ننزلق بسهولة إلى هوامش الفكرة تاركين مضمونها يبتعد رويداً رويداً، تحت تأثير سلبي يشتت التركيز نحو صلب الفكرة ومركزها. لذا فنحن نحتاج حتماً لجهد مضاعف وجدي سليم، نصل من خلاله إلى بناء نسق ثقافي وفكري حقيقي، يتلمس هموم الإنسان العربي، وينطلق من واقع إيماني صرف بضرورة انفتاحنا على الآخر، لنضمن على الأقل تكون المصدر المتنوع، إضافة لما هو موجود بين أيدينا. وقد نجح العرب والمسلمون ذات تاريخ في ميادين كثيرة، عندما فعلوا ذلك، وآمنوا به. وإن أبقينا على حالة التمترس خلف ثقافة العناد والتعالي، فإننا لن نحقق الكثير الذي لن يتعدى أرنبة أنوفنا. ولنفعلها بالفعل، علينا التمرد على نوايانا المسبقة وطريقة نظرتنا لما ومن حولنا. والنظر للكثير من الأشياء والعوالم نظرة فاحصة ومتهادنة جداً مع أنفسنا وعقولنا ومتغيرات الزمان والمكان، حتى لا نقع في فخ الإسقاطات التي تنطلق عادةً من وعينا المحدود والمكابر. أقترح أن نبدأ من الآن. فاللحظة التي تذهب لن تعود مطلقاً مهما انتظرناها.