مقالي هذا لن يتناول القانون المدني والقانون الاجتماعي، بلغة قانونية جافة؛ وإنما بلغة مبسطة مفهومة، توصل المعنى ولا تخل به، بقدر المستطاع. في البداية يجب أن نعلم بأن القانون المدني هو الذي تتعامل به الحكومة مع مواطنيها، لتنظيم حياتهم وعلاقاتهم بينهم وبين بعض؛ وبينهم وبين الحكومة نفسها. مثال ذلك، لا تستطيع الحكومة أن تطبق قانونا ينص على أن الصغير لا يحق له قيادة السيارة؛ لأن كلمة صغير غير محددة أو واضحة بسن معينة، ومن الممكن أن يفسر موظف دولة بأن الصغير هو ما تحت السن العاشرة، وآخر يفسره بأنه ما تحت الخامسة عشرة، وآخر يفسره بأنه ما تحت سن العشرين، وهكذا يضيع تطبيق القانون، حيث يضيق ويتسع حسب رؤيا الموكل بتطبيقه. ولكن الدولة تسن القانون التالي: لا يسمح بقيادة السيارة إلا لمن بلغ سن الثامنة عشرة. وهنا أي موظف حكومي مكلف بتطبيق النظام يستطيع تطبيقه بنفس الدقة التي سيطبقها به زملاؤه الآخرون في كل أرجاء الدولة.

أما القانون الاجتماعي فهو القانون الذي يضعه المجتمع ويتعارف عليه بأنه السلوك السوي، الذي يجب أن يسلكه أفراده؛ ومن يشذ منهم ينبذ اجتماعياً. والقانون الاجتماعي هو ما يعرف بالعرف، أي ما تعارف عليه مجتمع ما. فمثلاً كان في بعض مدننا قبل خمسين عاماً أن الرجل والشاب لا يجوز لهما المشي في الشوارع العامة، دون أن يرتديا البشت. ولكن إذا مشى شاب أو رجل في أحد الشوارع العامة دون أن يلبس بشتا، فلا يستطيع أحد أن يذهب لممثل الدولة ويطلب منه إنزال العقاب به، لأن ممثل الدولة لا يعاقب إلا مخالف القانون المدني، الذي سنته الدولة، لا العرف الاجتماعي الذي تعارف عليه المجتمع. ولذلك فكما أن للدولة آلياتها في تطبيق القانون المدني؛ فكذلك للمجتمعات آلياتها التي تستطيع من خلالها إنزال الردع، وليس العقاب، بمخالف أعرافها.

وآليات المجتمع في حفظ قوانينه، هي الضغط والنبذ والحرمان. وذلك بتسليط أسرته أو عشيرته أو قبيلته بالضغط عليه، وتهديده بعدم تزويجه إن كان عازباً، وعدم دعوته لحضور المناسبات الاجتماعية، وما شابه ذلك من الردع الاجتماعي.

وفي بعض المجتمعات يتم إنشاء جهاز تأديبي تطوعي، لتأديب من يخرج عن قوانينها الاجتماعية بالمطاردة والضرب، وهذا يكون في غياب تواجد أجهزة الدولة فيها، أو تواضع أدائها.

وتعزل الدولة عادةً نفسها عن قضايا المجتمع، المتمثلة في تطبيق قوانينه الخاصة به، لكون قوانين المجتمع تتباين من مجتمع لآخر داخل الدولة نفسها، فقد يوجد عرف يحمد في مجتمع وفي مجتمع آخر ينبذ. مثال على ذلك، في بعض المجتمعات في نفس الدولة، تستقبل المرأة الضيوف من الرجال، في عدم وجود الرجال، وترحب بهم، وتقدم لهم الطعام، وفي مجتمعات أخرى، عندما تدخل منزل امرأة ضيفة، تهرب الفتيات غير المتزوجات، حتى لا تراهن. كما أن القانون الاجتماعي يتغير بتغير الزمن، في نفس المجتمع، ويتحول من محمود إلى مذموم. مثال ذلك، لو أن شاباً في بريدة الآن يلبس بشته كلما خرج من بيته، فإن أول من سينتقده هم أسرته، وسيصمه المجتمع إما بالغرور، أو بنقصان العقل، وقد لا يجد من يسمح بتزويجه ابنته، وهو على هذه الحال.

تسن الدولة قوانينها المدنية، التي تراعي فيها الوضوح والدقة والتوازن، والمواكبة لروح العصر ومعطياته، آخذة في عين الاعتبار مراعاة المصلحة العامة، لجميع فئات المجتمع، مع اختلاف قوانينه الاجتماعية الخاصة بكل فئة منه. إذاً فالقانون المدني عام، أما القانون الاجتماعي فهو خاص، وعليه لا يجوز تعميم الخاص، أو تخصيص العام. وهنا تنتفي أحقية تعميم قانون اجتماعي خاص، وذلك بفرضه على باقي فئات المجتمع بدواعي الخصوصية. لأن دواعي الخصوصية تستوجب عدم الاعتداء على خصوصية الآخرين. وعلى هذا الأساس، فالدول لا تستخدم القوانين الاجتماعية الخاصة بديلا عما يفترض بأنها قوانينها العامة، وذلك لكون تعميم قانون خاص لفئة اجتماعية محددة على جميع فئات المجتمع وطرحه كقانون مدني عام؛ خلطا غير مبرر، يضر بالقانون المدني، وبنفس الوقت لا يخدم القانون الاجتماعي، لأن من ميزات القانون المدني مراعاة المصلحة العامة لجميع فئات المجتمع، وتعميم قانون خاص هو مراعاة لمصلحة فئة محددة على حساب باقي فئات المجتمع، وهنا تنتفي ميزة من ميزات الإثراء الثقافي، الذي تتبادله فئات المجتمع فيما بينها، وعليه يصاب المجتمع بحالة فقر ثقافي واختلال قانوني.

القانون المدني يشمل في دولة تعتمد الشريعة الإسلامية كمرجع رئيسي لمصادر تشريعها؛ ما جاء في الشريعة من حدود وتنظيم للمواريث والعلاقات الأسرية من زواج وطلاق، ومن تشريعات واضحة ومحددة في مواد وبنود مقننة، وتعممها كقانون مدني عام. إذاً فالقانون المدني يسمو على القانون الاجتماعي، وليس العكس، أي لا يمكن تعطيل قانون مدني لحساب قانون اجتماعي. وتأخذ الدولة هيبتها وحضورها عندما تفرض قانونها المدني العام على جميع قوانين فئاتها الاجتماعية، المتضادة في كثير من الأحيان، والتي يتجاوزها نفس المجتمع الذي سنها بعد انتهاء وقتها، واستبدالها بالنقيض منها.

من طبيعة القانون الاجتماعي أنه خاص ومتغير، حسب حراك المجتمع وتطوره، وتبدل آليات معيشته، ولذلك فالمجتمعات ذكية بطبعها، حيث إنها تعاقب من يخترق قوانينها بالضغط المعنوي والحرمان لا غير. وعندما تتبنى الدولة قانونا اجتماعيا لفئة اجتماعية ما وتطرحه كقانون مدني عام؛ فإنها تجمد هذا القانون الاجتماعي وتثبته، وتحرم المجتمع الذي سنه فرصة تجاوزه، واستبداله بخير منه، حسب معطياته المستجدة، ولذلك تتجاوز بعض المجتمعات دولها في التطور، ويحدث احتكاك غير محمود بين المجتمع والدولة.

وهنالك بعض الفئات المؤدلجة التي تجعل من الحفاظ على القوانين الاجتماعية محورا لأجندتها الاجتماع/ سياسية، وفئات أخرى تتكسب من ورائها إما بإيجاد دور لها في المجتمع، باسم الحفاظ على قوانينه، أو التكسب من وراء الترويج لها، وتعتبرها خصوصية يجب عدم المساس بها. وهنا كذلك يتجاوز المجتمع هذه الفئات ويبدأ بالصدام معها، حيث طبيعة المجتمع الحي هي الحراك، وتبديل وسائل عيشه بأفضل من الأولى وعليه تبديل قوانينه بأفضل منها كذلك.

والإرباك الذي حصل في الخلط بين القوانين الاجتماعية والقوانين العامة هو بالضبط ما حدث لبعض من قدن سياراتهن من النساء، حيث القانون المدني لا يوجد فيه ما يمنع صراحة قيادتها للسيارة، أما القانون الاجتماعي فلا يسمح بذلك. أما فئات منه فقد سمحت الآن، وأصبح القانون العام عاجزا عن استيعاب هذا الحراك الاجتماعي، فدخل في حالة إرباك وصدام مع المجتمع لا يحسد عليه. وهذا من نتائج الخلط بين القوانين المدنية التي تختص بها الدولة، والقوانين الاجتماعية التي يختص بها المجتمع. وعليه يجب أن يلتزم كل بدوره المنوط به، وهذا أسلم وأقوم.