من الطبيعي في أي مجتمع بعد أي قرار إصلاحي جريء أن يحدث حراك ثقافي بين أطياف ذلك المجتمع، وهو ما شاهدناه بعد قرار خادم الحرمين بالسماح للمرأة بالترشّح والترشيح في مجلس الشورى والبلديات، ومن حق أي طرف أن يُبيّن رأيه بالعدل والإنصاف، إلا أن لديَّ بعض الوقفات حول موضوع مشاركة المرأة من الناحية الشرعية، حيث اطلع الناس على العديد من الآراء التي نُشرت لبعض الكتاب أو طلبة العلم.
أولا: ومن حيث المبدأ، في أي أمر خلافيّ بين الفقهاء؛ فإن الواجب في هذه الحالة عدم التشديد على الناس، وألا يحاول أحدٌ أن يعسف الآخرين كي يتبعوا رأيه، إذ في الأمر سعة ما اختلف العلماء فيه. خاصة أن وليّ الأمر قد اختار من بين الأقوال، وحُكْمُ وليّ الأمر يرفع الخلاف كما قرّر ذلك الفقهاء. وربما يُعاب على البعض فيما كتبه أنه يتكلم عن الأمر وكأن الأمر قطعيٌّ لا خلاف فيه، ولا اعتبار لمن أباح ذلك من العلماء والفقهاء.
ثانيا: أن الأصل في مثل هذه الحالة هو الحل والإباحة، كما اجتمع على هذا الأصل علماءُ الفقه والأصول المعتبرون، وطالما أنه لا يوجد نص شرعي واضح في المسألة؛ فإن الأمر يبقى على الأصل حتى يأتي أحد بإثبات الضد (وهو التحريم هنا). وبعد مراجعة وتدقيق فيما ذكره المانعون، لم نجد أنهم ذكروا دليلا واحدا نصّا في المسألة، أو حتى اجتهاد قوي يقوّي غلبة الظن في المسألة، بل أغلب تلك الأدلة تدور حول الإلزامات التي لا قد تسلم منها مسألة، ويمكن إجراؤها على الكثير من الأمور إذا اطّردناها. ولكن فيما يبدو ـ والله أعلم ـ أن البعض لم يعتد على هذا الأمر ونشأ على ذلك، وربما كان مقررا لديه مسبقا بحسن نية، وعندما أخذ يبحث المسألة، ربما تركّز نظره في الأدلة المانعة دون أن يشعر، وهذا ينافي التجرد المطلوب عند بحث أي مسألة، خاصة إذا كانت تتعلق بالشأن العام، ويترتب عليها حاجات وحقوق للآخرين. أما كونه لم يصلنا تعيين النبي عليه الصلاة والسلام أو خلفائه الراشدين لامرأة، وكأن الأمر توقيفي أو تعبّديّ؛ فعدم الورود ليس دليلا على المنع، طالما لا يوجد دليل آخر ينصّ على التحريم.
ثالثا: ذكر بعض الباحثين أن العضوية في مجلس الشورى ولاية عامة على المسلمين، وهي مما لا يجوز للمرأة، واستند إلى الحديث المشهور عن النبي عليه الصلاة والسلام: (لن يُفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة)، وعضّد ذلك بنقل الإجماع على معنى الحديث في ذلك. وهذا الأمر غير دقيق من وجوه في نظري؛ إذ إن مجلس الشورى جهة استشارية وليس لها قرار إلزامي، فأين الولاية في ذلك؟ ثم إن الولاية العامة التي حُكي الإجماع على عدم جوازها للمرأة هي تولّي أمر المسلمين بالخلافة (أو بالقياس كالملك والرئاسة ونحوهما)، وليست في كونها عضوة من بين المئات لأجل تقرير أمر استشاري! ولو كان إلزاميّا فهو بنظري ليس ولاية عامة بأي حال من الأحوال، ولو سلّمنا أن فيه ولاية عامة؛ فإن الخلاف فيه سيكون جاريا كما جرى في تولّي المرأة القضاءَ من باب أولى، والأمر فيه واسع.
رابعا: ذِكْر البعض أنه يجب أن نربط الحكم في تلك المشاركة باللوازم التي تترافق مع هذه الوظيفة غيرُ مؤثّر في الحكم والله أعلم، حيث ذكروا عددا من اللوازم المؤدية للحرام، والتي تنطبق على كل أحد وعلى كل عمل! فالرجل حين يعمل في السوق ربما يشاهد امرأة متبرجة أو يتحدث إليها باستمرار، وقد يكون ذا نية سيئة فيتعرض للنساء وما إلى ذلك من الإلزامات المتكلفة. بالإمكان ذكر أن الأمر في أصله جائز وأنه يتخوف من مفاتن معينة وينبّه عليها كما يُنبَّه كل إنسان وفي أي مكان! ولكن ليس لأجل التحريم والتضييق على الناس، خاصة أنه لا يوجد اختلاط بين الأعضاء من الجنسين حيث يجلسون، فكلٌ يجلس في مكان منفصل عن الآخر، كما أنه مكان عام، وأغلب من فيه هم من الثقات وذوي الصلاح والسمعة الحسنة. كما أؤكد أن وقوع أخطاء أمر وارد، وهذا من عموم البلوى الذي لا يسلم منه أحد، رجلا كان أو امرأة، فالرجل يرى النساء المتبرجات ربما في الطائرة أو في سفره لأجل العمل، فهل نمنعه من ذلك لأجل المفاسد التي قد تقع؟!
أما التعليق على أن الضوابط الشرعية لم تُذكر في الأمر، فلا أرى لذلك محلا، إذ يكفيه ربطه بتلك الضوابط، ولكل أحد أن يعترض على عدم تطبيقها مادامت منصوصة في القرار الملكي.
خامسا: السماح للمرأة بالمشاركة في الشورى يمكنها من المساهمة في المزيد من رعاية مصالحها وحقوقها بلا شك. فهي ستكون أكثر حرصا من الرجال، فما المانع إذا كانت المرأة على درجة عالية من التعليم والاستقامة أن تساهم في الإصلاح والتطوير؟
كما أن التكلف في إرجاع تنصيبها لأجل أهداف وأبعاد أخرى ليس له علاقة بالأمر، وأيّ اتّهام أو دعوى بأن ذلك جاء لتغريب وإفساد المجتمع يجب أن يكون ببيّنة وتروّ، خاصة في أمر يتعلق بجانب وليّ الأمر.
ختاما؛ لا شك لديّ في أن أولئك لديهم الكثير من الغيرة على الدين والرغبة في الحفاظ عليه، ولا أدّعي كمالاً إلا أنني لا أرى مسلكهم مسلكا صحيحا، وأرى أن هذا القرار كان حكيما ويساعد في تخطي الكثير من العقبات التي تواجهنا.