إنهم بحاجة إلى خطة أشبه ما تكون بخطة الإنقاذ التي اتخذتها المصارف الأميركية بعد الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالعالم، ذلك أن التقليدية كتفكير يتحاشى الواقع بمختلف معطياته، ويستنكر مجرد دعوته إلى إعادة النظر في خطابه، ويستشعر أن كل مرحلة جديدة تمر على مجتمعه هي مرحلة مواجهة أكبر وممانعة أشمل، ويؤمن دائما بأن القادم من الزمان هو الأكثر تطويقا وتقييدا له، وأن فسحته وراحته وقوته الحقيقية كانت فيما سبق، وعليه أن يستعد دائما لمواجهة القادم والوقوف في وجهه. ثم ما يلبث أن يتمكن ذلك الواقع الجديد في أوساط المجتمع المحلي وغيره من المجتمعات ليصبح هو السائد وهو القانوني والمنطقي، لتشتعل جذوة الممانعة والألم لدى كل الشرائح التقليدية. يستطيع السعوديون الآن أن يؤمنوا بأن لديهم أكثر من مستوى من مستويات الخطابات الدينية، وهم يأنسون إلى بعضها، بينما باتوا يتحاشون البعض الآخر، إنهم يتجهون وبشكل بالغ الكثافة إلى المعتدل والوسطي والواعي بواقعهم، والقادر على مسايرة إيقاع حياتهم، وهو واقع طبيعي في كل المجتمعات التي ما تلبث أن تبدأ ومع تصاعد الوعي لديها في عملية فرز حقيقية بين الخطابات النافعة وتلك التي تشاكس واقعهم وحياتهم وطموحهم. التدين جزء أصيل من تكوين الشخصية المحلية، وحتى لدى من يملك قراءة خاصة لفهمه للالتزام سوف يمكن العثور في لغته وفي قاموسه وفي شخصيته على عوامل ومظاهر تؤكد أن التدين جزء أصيل من تكوينه النفسي والثقافي، فما بالك بشعب ومجتمع متدين بالفعل وبكل التفاصيل والشعائر، بل ولديه القدرة للحفاظ على مظاهر تدينه وشعائره، وهو يقوم بكل ذلك باعتزاز وفخر مستمر، وبالتالي فالمجتمع أصلا يمتلك من القوة والأصالة في تدينه ما يجعله قادرا على نسف أية مزايدة للوصاية عليه باسم التدين والحفاظ على الفضيلة، ويمكن هنا الاستدلال بأن وجود مواطنين لديهم مواقف من أخطاء تقع من أعضاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعني بأي حال من الأحول بأنهم يحملون موقفا مضادا للشعيرة بحد ذاتها، مما يؤكد أن أية محاولة للمزايدة لا مكان لها.
هذا يعني أن كل من ينطلقون في تعاملهم مع المجتمع السعودي من منطق الحفاظ على الخير والحق والفضيلة، وكبح جماح الشر، والخوف على المجتمع؛ هم في الواقع كمن يحاول أن يبيع بضاعة في وسط سوق لديه كل الأصناف من تلك البضاعة، إلا أنه يستقبلها ويستهلكها بشكل آخر، بل ويملك القدرة للرد فعليا على تلك المزايدات، وفي تاريخنا السعودي لاحظنا كيف ظل الوعظ التقليدي لسنوات يحذر الشارع من أفكار وأمور اكتشف الشارع أنها لا تخيفه أصلا، فاكتشف كذلك أن هذا الصوت أقل شجاعة منه وأقل استيعابا للأمور منه، وحين نتذكر بعض المنابر التي كانت تصرخ في الناس بشأن الفضائيات واستخدام الأطباق الفضائية والسفر لبلاد الغرب وتوظيف بناتهم في المستشفيات وسماع الموسيقى وغيرها الكثير من محاور الصراخ الوعظي؛ ثم ندقق في مصير تلك الدعوات ومصير تأثيرها الاجتماعي ندرك جيدا بأن الشارع قد تخلى عن ارتباطه وإيمانه المطلق بذلك الوعظ التقليدي، وأصبح قادرا على الفرز والتمييز بين مستويين من ذلك الخطاب، ومستعدا للتخلي عن أحدهما.
بعد تلك العملية المجتمعية يمكن القول إن لدينا خطابا دينيا هو الأقرب للحياة وللواقع، ولدينا أيضا خطاب آخر بات عبئا على الناس وعلى الحياة والدولة والمجتمع، وقد شعر هذا الخطاب المهزوم بكثير من التردي والخسارة فاتجه ليحمل السلاح الأخير والوحيد في جعبته، وهو سلاح الممانعة والرفض وافتعال المعارك وما يتبع ذلك من تهم ومواجهة وعنف أحيانا. إذن أصبح هذا الخطاب وهذه النسخة من المحافظة عبئا على حياة السعوديين وواقعهم، بل وعلى تطلعهم وطموحهم، ولم يعد لتلك النسخة من صوت سوى الممانعة الذي تجاوزه الشارع أصلا، ولأن الكيانات الوطنية الواعية تتجه فيها القرارات والرؤى التنموية باتجاه ما يلبي تطلعات الناس وتحولاتهم؛ فقد بات من الواضح أن الخاسر الأكبر والأبرز في هذه الممانعة هو أولئك النفر من المحافظين محافظة عمياء لا طائل من ورائها. إنهم بحاجة إلى خطة حقيقية للبقاء – إذا كانوا يستوعبون أزمتهم أصلا – تفرض عليهم تقديم جرد مبدئي لقائمة الخسائر الطويلة التي حصدوها طوال تلك الفترات، وتفقد عوامل تلك الخسارة، والاتجاه إلى الإيمان بأن خطابهم ورؤاهم وأدواتهم أصبحت مجرد أدوات غير صالحة للعمل، والتفكير خارج الدوائر المغلقة التي صنعوها عبر تفكير أيديولوجي لا التفكير العلمي أو المنطقي، واستيعابهم السلبي لفكرة السائد والمهيمن. خطة البقاء تفرض كذلك مزيدا من الإيمان بالتحولات، وأنها ليست مجرد نوع من الطيش الشبابي الذي يمكن إسكاته، وفي ذلك يمكن أن أقترح عليهم أن يسافروا إلى خارج المملكة، ليدركوا أن كثيرا من القضايا التي يستميتون في الدفاع عنها هي قضايا تجاوزها العالم من حولهم منذ عشرات ومئات السنين، وعليهم أيضا أن يستاءلوا: كم من السعوديين من يدركون تلك التحولات، ويدركون أن كل من يحاول الوقوف في وجه ذلك التغير مجرد ضيف ثقيل عليهم للغاية؟ الآن يشعر السعوديون بحاجة ملحة للضحك على كل من يعترض على إشراك المرأة في مجلس الشورى وفي المجالس البلدية، لا لشيء إلا لأنه يذكرهم بمن أفتوا بتحريم شراء الهاتف المحمول المزود بكاميرا.