للتسرّب الوظيفي أسباب وعوامل عديدة ومعقدة، منها ما هو اقتصادي واجتماعي أو نفسي، ولكن التركيز السائد في بعض الجهات الحكومية وكذلك الشركات والمؤسسات ينصب على أن سبب التسرّب هو وجود فرص مغرية ومزايا مادية لدى الجهات الأخرى التي يذهب إليها الموظف.

وكما يتم التركيز على هذا السبب، يتم التركيز أيضاً على أثر أو نتيجة واحدة لهذا التسرّب، والمتمثل في الجهد والتكاليف المالية التي تم صرفها على إعداد وتأهيل الكوادر المهنية من خلال برامج التدريب، أو من خلال اكتساب الخبرات العملية والمهارات الفنية في أساليب العمل.

وبالرغم من الوجاهة المنطقية لهذه المبررات، وصحتها على وجه من الوجوه، إلا أنها في اعتقادي لا تخلو من احتمالين، أولها يتعلق بالتهرّب من المسؤولية إزاء التسرّب الوظيفي، والاحتمال الثاني يتمثل في هدف الحصول على مزايا وحوافز أكثر، ليست في صالح الموظف الكفء بقدر ما هي تصب في المصالح الشخصية للبعض وخاصة أصحاب النفوذ منهم.

ولهذه الاحتمالات مبرراتها، حيث نجد أن هناك أسباب كثيرة للتسرّب الوظيفي لا تتعلق بالمزايا المالية فقط، من أهمها عوامل تتعلق ببيئة العمل الداخلية في الجهة الحكومية أو الشركة نفسها، فلا يتم التطرق إليها خوفاً من المساءلة، ولا يتم التركيز على الآثار السلبية للتسرّب الوظيفي وخاصة فيما يتعلق بضعف وسوء الأداء كنتيجة لهذا التسرّب، فكأنهم يقولون: "ليست لدينا أية مشاكل من شأنها التسبب في تسرّب موظفينا سوى قلة الحوافز المادية والتي لا شأن لنا بها، حيث إن هذه الحوافز تحددها الأنظمة والقوانين، ونحن مطالبون بتطبيقها".

ومع ذلك فقد أثبتت التجربة في بعض الجهات، أنه بمجرد توفير هذه الحوافز وهذه المطالب، فإنها مازالت تعاني من تسرّب الكفاءات لديها، بل قد يزيد في بعض الأحيان، والسبب لم يتغير، بحجة أن الحوافز ليست تنافسية ولم تصل إلى الغاية المطلوبة.

وكما ذكرت آنفاً فإن عوامل بيئة العمل الداخلية والتي لها علاقة وثيقة بالتسرّب الوظيفي لا يتم التطرق إليها، ولا يتم التركيز على الآثار السلبية لها، وليس هذا فحسب بل يتم التعتيم عليها أيضاً.

وبهذا الصدد تشير بعض الدراسات والأبحاث في هذا المجال إلى أن "الأسباب التنظيمية المرتبطة ببيئة العمل الداخلية تؤدي بدرجة عالية جداً إلى التسرب الوظيفي وترك العمل، ومن أبرزها ما يلي:

• التعسّف الإداري في التعامل مع الموظفين والضغط الشديد عليهم، وإساءة استعمال السلطة.

• وجود الواسطة والمحسوبيات في الترقيات، لعدم وجود أسس واضحة لها، بالإضافة إلى عدم وجود معايير واضحة لتقييم الأداء الوظيفي.

• ارتفاع درجة المركزية في العمل، مع وجود مسؤوليات وصلاحيات غير واضحة.

• عدم وجود اهتمام كاف من قبل الإدارة بالموظفين، وعدم إتاحة الفرصة لهم لإبداء آرائهم ومقترحاتهم، وعدم مشاركتهم في اتخاذ القرارات.

• عمل الموظف في غير مجال تخصصه العلمي أو المهني، وعدم الإحساس بالأمن والاستقرار الوظيفي.

هذه هي أبرز الأسباب التي تتعلق ببيئة العمل الداخلية والتي لها علاقة وثيقة بترك العمل، والتي يتم يتجاهلها أو بالأحرى التعتيم عليها تجنباً للدخول في متاهات تكون الجهة في غنى عنها.

ولو تم عمل دراسات علمية شاملة في جهة ما، تتعلق بأسباب التسرّب الوظيفي وتم التوصل لمثل النتائج السابقة، فلا أعتقد أن هذه الجهة سوف تفصح عنها، وربما يترك القائمون على هذه الدراسة العمل أيضاً للأسباب نفسها، لذا يكتفى بالسبب الشائع دائماً وهو قلة الحوافز المادية!

وحتى تتضح الصورة أكثر للقارئ الكريم، استعرض فيما يلي بعض الصور والحالات الافتراضية كأمثلة على أسباب التسرّب الوظيفي وخاصةً الكفاءات منها، والتي تتعلق بشكل مباشر بالبيئة الداخلية في بعض التنظيمات الإدارية:

• فعلى سبيل المثال عندما تضيق إحدى الجهات ذرعاً بأحد الموظفين الأكفاء والذي أشغلهم باعتراضاته المنطقية على قراراتهم وأعمالهم، والتي قد تخالف الأنظمة والتعليمات، فإنهم يقومون بإبعاده عن خطوط السلطة والمسؤولية، إما بنقله أو بتجميده، فلا تحال إليه أية معاملة، أو ينقل إلى إدارة ليست لها مهام محددة، والموظف هنا أمام خيارين إما أن يترك العمل ويبحث عن وظيفة تتناسب مع مؤهلاته وطموحاته المهنية، وإما أن يتحول إلى موظف محبط وغير مبال فيتحول مكتبه إلى صالون كلامي.

• قد تعمد بعض الجهات إلى استنزاف حماس بعض الموظفين الشباب من ذوي الكفاءات العالية، وذلك عن طريق تكليفهم بالقيام بالدراسات التي تتعلق بأعمال الجهة، فيقومون بإعدادها وبذل أقصى جهد ممكن وذلك من خلال الاطلاع على المراجع والوثائق، وعمل الزيارات الميدانية وإجراء المقابلات الشخصية، ليكتشفوا في النهاية أن مصير دراساتهم قد انتهى إلى درج مكتب المدير أو المسؤول.

• استخدام سياسة التخويف والترهيب للموظفين، وإحالتهم إلى التحقيق لأتفه الأمور، أو حرمانهم من البرامج التدريبية بحجة الحاجة إليهم في أداء أعمال الإدارة، أو حرمانهم من الترقيات لأسباب واهية، ليظفر بها من هو أقل منهم كفاءة واستحقاقا.

الصور السابقة تعد من أبسط النماذج التي تتعلق بالبيئة الداخلية للمنظمة الإدارية، ولكن من المهم أن تكون هناك دراسات مستقلة تبحث في أسباب التسرّب الوظيفي وتتقصّى عنها، وكما رأينا آنفاً، فإن هناك أسبابا متعددة ومتنوعة، لذا فإن التركيز على أي سبب دون الاعتبار للأسباب الأخرى؛ سيؤدي إلى فهم غير مكتمل أو غير كاف لأسباب التسرّب الوظيفي، بالإضافة إلى ضرورة قياس الآثار المترتبة على هذا التسرّب، والتي لا تتعلق فقط بالتكاليف المالية، وإنما أيضاً بأداء العمل الإداري والذي يتمثل في تعطيل العمل وإرباكه بسب فقد الكفاءات المؤهلة، والذي ينعكس بدوره على الموظفين الباقين والذين قد تنخفض معنوياتهم نتيجة لذلك.