تقف الوثائق بوصفها واحدة من أهم مصادر المعلومة التاريخية، وتحجز "الوثيقة" موقعها المتقدم في قائمة اتكاءات الباحثين من حيث دقتها، وأهميتها في رسم ملامح حياتنا الثقافية، والاقتصادية، والسياسية وقبل ذلك الاجتماعية.
وتبرز إلى الضوء في مشهدنا الثقافي هذه الأيام قرابة 2000 وثيقة من وثائق محافظة الغاط تؤرخ للفترة ما بين 1120 و1370هـ، تكشف عن تنوع نقدي كما تشير إلى دور مبكر للمرأة في الحراك الاجتماعي والثقافي وكذلك مراحل تطور الكتابة وتباين اللهجات، في حين تشير فكريا إلى سيادة المذهب الحنبلي، وكثرة معتنقيه في الوقت الذي تؤكد فيه على بداية تفشي العامية، وبداية تأثيرها على اللغة العربية.
الباحثون والباحثات على موعد مساء اليوم مع تلك الوثائق، حين يدشن رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار الأمير سلطان بن سلمان في محافظة الغاط، كتاب "وثائق من الغاط"، وسط حضور بحثي واسع، تقيمه مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية، والذي يعد واحدا من المشاريع العلمية المهمة للمؤسسة.
خطوة أولى
تقدم مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية هذا العمل، من خلال مركز الرحمانية الثقافي بالغاط، انسجاماً مع أهداف المركز في حفظ التراث الأدبي والتاريخي للغاط، حيث فوضت المهمة للباحث فايز بن موسى البدراني الحربي، الذي يعد واحدا من خبراء الوثائق، حيث أصدر ما يقارب ثلاثين بحثاً وكتاباً، جُلَّها في مجال تحقيق الوثائق. المؤسسة ذهبت إلى أن هذا العمل يمثل البداية، في جمع وثائق الغاط وتحقيقها ونشرها مشيرة إلى أنها على قناعة بأن وثائق الغاط أكثر مما تم جمعه والوصول إليه حتى الآن. وتأمل المؤسسة أن يبادر الباحثون للاستفادة من المادة العلمية التي تقدمها هذه الوثائق في البحوث التاريخية والاجتماعية للمنطقة، وكذلك الاستفادة من برنامج المؤسسة لتمويل الدراسات المتعلقة بالغاط ونشرها حتى تتوالى الإصدارات القيمة عن هذا البلد العريق.
رحلة الغاط
قال الباحث البدراني في حديثه عن إنجاز هذا المشروع إنه وجد فيه فرصة لخدمة المحافظة وتاريخها، مشيرا إلى أن الوثائق تكشف جانباً مهماً من جوانب تاريخنا المحلي، ومن المؤمل أن تكشف عن حلقات جديدة ومفقودة من علاقة الغاط بالقوى المحيطة، وبالمناطق المجاورة لها فيما يتعلق بالأوضاع العامة، وتصور جوانب من الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ويرى البدراني أنه بالرغم من أن تلك الوثائق لا تمثل كل وثائق منطقة الغاط العريقة التي تختزن ثروة كبيرة منها إلا أنه يرى أهمية نشر الوثائق المتاحة على قلتها كبداية لهذا البحث، لأهميتها في استقصاء وثائق المنطقة، مشيرا إلى أن نشر هذه المجموعة بوصفها دفعة أولى قد يكون حافزاً لظهور المزيد من الوثائق التي سيبادر أصحابها إلى إخراجها وإتاحتها للباحثين بعدما تتضح لهم أهمية نشرها في إبراز تاريخ أجدادهم وأسرهم ومنطقتهم.
وعن النطاق الجغرافي للوثائق الواردة في هذا الكتاب أكد البدراني أنها منوطة بـ "منطقة الغاط القديمة"، وليس بالضرورة أن يكون الغاط بمساحته الإدارية المعاصرة، حيث إن الكتاب يشمل وثائق خارج الحدود الحالية لمحافظة الغاط.
مصادر الدراسة
استفاد البدراني في عمله من عدد من البحوث والمصادر والمراجع القديمة والحديثة، والتي من بينها أسر مدينة الغاط، والبواصر في التعريف بأسر النواصر وعبدالله بن مساعد الفايز، وكذلك كتاب محافظة الغاط لمحمد بن أحمد الراشد والذي يعد من أوفى ما صدر عن منطقة الغاط، حيث بذل مؤلفه-بحسب البدراني- جهدًا واضحًا، وبَوَّبه تبويبًا جيدًا، وحاول فيه تغطية الجوانب الدراسية المهمة للمنطقة.
الوثائق الأهلية
يرى البدراني من وراء خبرة طويلة مع الوثائق المحلية أنها لم تأخذ ما تستحقه من العناية والدراسة بوصفها مصدرًا تاريخيًا أساسيًا ربما يفوق المصادر التاريخية التقليدية أهمية وفائدة، بل إنها لم تنل من الدراسة ما نالته الوثائق الأجنبية التي ذهبنا نبحث عنها شرقاً وغرباً مرجعا ذلك لعدة عوامل منها قِصَر تجربتنا البحثية والتاريخية مقارنة بالأمم التي سبقتنا في هذا المجال، وكذلك صعوبة الوصول إلى الوثائق الأهلية مقارنة بالوثائق الرسمية أو الأجنبية، بسبب ما يتوافر للأخيرة من وسائل الحفظ والفهرسة، في حين لا تتوافر للوثائق المحلية الخاصة معلومات كافية عن أماكنها ومحتوياتها.وأشار كذلك إلى الاعتقاد السائد بين كثير من الباحثين أن حياة الناس العاديين – وخصوصاً في عصور ما قبل توحيد المملكة العربية السعودية، ونهضتها – لم تكن تحظى بالتدوين والتوثيق، فضلاً عن عدم الاحتفاظ بما قد يتم تدوينه في تلك الظروف غير المستقرة، إضافة إلى صعوبة الاطلاع على الوثائق الخاصة إن وجدت بسبب خصوصيتها في نظر أصحابها، والاعتقاد بأنها مما لا يجوز أن يطلع عليه الآخرون.
أمراء الغاط
تجلي الوثائق بدقة الحياة السياسية، والأوضاع الأمنية لسكان المنطقة من خلال الإشارات الموثقة للأحوال الاجتماعية والسياسية وما يتعلق بالحكم المحلي.كما أن مضامين تلك الوثائق من قوانين ومكاتبات تتعلق بأخبار الحروب أو الاضطرابات تقدم صورة أكثر وضوحاً عن الأحوال الأمنية في تلك المناطق خلال مدة البحث.
وتكشف كذلك عن معلومات مهمة تتعلق بأمراء الغاط، ومن أمثلة ذلك: أن الأمير على الغاط قبل سنة 1124هـ كما جاء في وثيقة بخط الشيخ أحمد القصير (ت 1124هـ) هو: حسين بن أحمد بن عبدالله السديري. وجاء في الوثيقة المؤرخة سنة 1183هـ أن أمير الغاط حينئذ كان: سليمان بن حسين السديري، كما جاء في الوثيقة المؤرخة في (10/18/1224هـ) أن تركي بن محمد السديري كان نائباً للإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد على بلدة الغاط، مما يعني أنه كان أمير الغاط حينئذ. كما جاء في الوثيقة المؤرخة في 22 / 4 /1242هـ وصف أحمد السديري بعبارة: حال كونه أميراً على الغاط. جاء في الوثيقة المؤرخة في (20/ 4 /1264هـ) إشارة صريحة إلى إمارة محمد بن أحمد السديري على عامة سدير.
الحياة الاجتماعية والاقتصادية
ذهب البدراني إلى أن استعراض الوثائق المحلية المتعلقة بالحياة الاجتماعية والاقتصادية من خلال المكاتبات المتعلقة بالوصايا والأوقاف والهبات والمبايعات والمخاصمات والعقود، يجعلنا نقف عن كثب على الحياة اليومية للسكان، ونستطيع معرفة المستوى المعيشي والحالة الاقتصادية السائدة في مرحلة تاريخية معينة. وتفيد الوثيقة (1/ 4 / 1265/هـ/مج1) أن سعر ثلاثين وزنة تمر ريال واحد، كما تعرض لنا الوثائق صورة واضحة عن نشاط السكان الذي كان يتمحور غالباً في الزراعة والتجارة والرعي والجمالة، وكذلك نوعية البضائع وأنواع المزروعات التي غالبها القمح والذرة والبرسيم والخضار، ومن الأشجار: النخيل والأثل والتين والأترج والليمون والقطن.
كما تفصح الوثائق كثيراً عن دور المرأة في النشاط اليومي للسكان، ومشاركتها في الحياة الاجتماعية، وأهم الأعمال التي كانت تقوم بها، وقد اتضح من خلال الوثائق الواردة في هذا الكتاب أن المرأة كانت تمارس البيع والشراء، وتملك العقارات، وتقوم بدور بارز في الزراعة، ونظارة الأوقاف وتنفيذ الوصايا.
المذاهب الفقهية
تقدم مضامين الوثائق معلومات مهمة ودقيقة وواقعية عن الجوانب الفكرية والدينية السائدة في ذلك المجتمع وفي تلك الحقبة التاريخية. ويتعرف القارئ لهذه الوثائق أن المذهب الحنبلي كان هو المذهب السائد في منطقة البحث التي تقع في وسط نجد، وسيتضح ذلك من خلال الإشارات الصريحة أو الضمنية الواردة في المكاتبات القضائية، والفتاوى الشرعية ضمن وثائق هذا الكتاب، ومن خلال التعرف على مشاهير علماء المذهب من أصحاب القضاء والفتوى. كما أن المستوى اللغوي والأسلوب الأدبي لكتابة الوثائق يعكس المستوى التعليمي العام في المنطقة خلال مدة البحث. وتصور الوثائق السلوك الديني السائد في مجتمع البحث تصويراً صادقاً وأميناً. ومن أمثلة ذلك ما جاء في الوثيقة المؤرخة سنة (1240هـ/مج1) تقريباً، حيث تعكس حال التدين الشديد للناس مع بساطة وانفتاح ورغبة في عمل الخير وبذل الإحسان للفقراء والمحتاجين ولأهل البلد عموماً. كما يستفاد من منطوق بعض الوثائق الوقفية معرفة أنواع الكتب الشرعية السائدة في حلقات الدرس في المجتمع، وعدد المساجد الرئيسة في الغاط، وغير ذلك مما يتعلق بالحالة الدينية.
الفقهاء والقضاة
تقدم وثائق الغاط كذلك رصداً دقيقاً ومهماً لأعلام القضاة والفقهاء وأئمة المساجد في منطقة الغاط على مدى ثلاثة قرون تقريباً، والسبب أن القضاة والفقهاء وأئمة المساجد أكثر ممارسة للكتابة من غيرهم في تلك الحواضر والأرياف البعيدة عن مراكز العلم والتمدن. وتقدم الوثائق معلومات مهمة عن قضاة المنطقة خلال مدة البحث، وتفيد الوثيقة المدونة قبل سنة 1124هـ، والتي يعتقد أنها كتبت في حدود سنة 1220هـ أن إمام مسجد الغاط آنذاك هو: عبدالله بن عيد. كما تفيد الوثيقة (11/1283هـ/مج19) أن عثمان بن علي بن عيسى كان قاضي سدير من قبل الإمام حينئذ، ويقصد بالإمام حينذاك عبدالعزيز بن محمد، كما تفيد الوثيقة ( 1/ 8 /1288هـ) أن إبراهيم العتيقي كان يقضي في سدير حينئذ.
وفيات الأعيان
من أهم المعلومات التي تسجلها الوثائق بدقة هي حفظ أسماء الجدود والأعيان في منطقة البحث، وتوثيق معلومات مهمة تتعلق بحياتهم وأسرهم ومعرفة أسماء أمهاتهم وزوجاتهم وأولادهم، ومكانتهم الاجتماعية والتجارية، ومعرفة تاريخ وفياتهم، وتشير الوثيقة المؤرخة سنة 1183هـ على سبيل المثال إلى وفاة محمد العميري، بالزبير، كما تشير الوثيقة المؤرخة في (4 /6 /4 128 هـ إلى وفاة تركي بن محمد بن حسين السديري في تلك السنة، كما تشير الوثيقة (6/1329هـ) إلى أن موضي بنت عبدالله بن حمد بن رزق قد توفيت قبل أختها تركية، وتذهب في ذات السياق وثيقة مؤرخة في (1330هـ) تقريباً إلى أن عبدالعزيز بن عبدالله المنصور قد توفي قبل حرب المجمعة، والمراد: حرب المجمعة الأولى سنة 1300هـ.
تفشي العامية
تسلط الوثائق المحلية الضوء على اللهجات المحلية والمراحل التي مرت بها اللغة في منطقة البحث. وتتميز لغة الوثائق أيضاً بما تحملة من مفردات عربية وعبارات شرعية ربما لم تعد مستخدمة اليوم في المكاتبات الشرعية، ولا شك أن في دراستها إثراءً للبحوث اللغوية والقضائية.
كما أن من أهم المجالات التي تتيحها دراسة لغة الوثائق موضوع الدراسة مراحل ضعف اللغة العربية وبداية تفشي العامية الكتابية، وتباين اللهجات في منطقة البحث، وهذا موضوع يهم دارسي الشعر العامي وتحديد بداياته عن طريق تتبع اللغة المحلية المكتوبة وليس من خلال القصائد العامية التي أفسدها الرواة بالتناقل الشفهي، فلم تعد مصدراً موثوقاً لدراسة الألفاظ العامية وتحديد بداية ظهورها.
تنوع نقدي
مع أن العملات النقدية هي أحد المظاهر الاقتصادية إلا أن دراستها دراسة تاريخية آثارية تجعلها موضوعاً قائماً بذاته، ومن خلال تتبع وثائق هذا البحث المتعلقة بالبيع والشراء والإيجارات والعقود والمخالصات ونحوها، فإن من السهل إجراء مثل هذه الدراسة التاريخية لمعرفة العملات النقدية السائدة في منطقة البحث خلال المدة الزمنية التي تغطيها الدراسة، ومن أشهر العملات المتداولة في الغاط خلال القرنين الهجريين الثاني عشر والثالث عشر والنصف الأول من القرن الرابع عشر، الأحمر: وهي عملة عثمانية كانت متداولة في الحجاز وبعض مناطق الجزيرة العربية أثناء الحكم العثماني، والريالات الفرنسية: وهي العملة النمساوية، وكذلك الريال الفضة. والزر: وهو عملة عثمانية تم تداولها محلياً ساد استخدامها في العصر العثماني، وخاصة في مناطق شمال الحجاز ونجد.
سلاح ذو حدين
وقد تكون الوثائق التاريخية-كما يرى البدراني- سلاحاً ذا حدين، فكما أنه يمكن الاستفادة منها في تحقيق التاريخ، فإنه يمكن أن تسيء إلى التاريخ إذا تعرضت للاستخدام السيئ، وخاصة عندما يقوم بتحقيقها أناس غير مؤهلين، فيسيئون للوثائق، ويشوِّهون وجه الحقيقة المشرق. وهو الأمر الذي يثير الشك حول أهميتها، ويؤدي إلى التعامل معها بحساسية مفرطة من قبل الأفراد أو الجهات الرسمية خوفاً مما قد تثيره من نعرات أو خلافات.
أما فيما يتعلق بتخوف البعض من إمكانية تزوير الوثائق واستغلالها استغلالاً غير أخلاقي، من قبل بعض ضعاف النفوس، فإنه ينبغي تطمين القارئ الكريم بأن تزوير الوثائق التاريخية لا يمثل خطورة حقيقية، لأن اكتشاف تزويرها أمر سهل ومتيسر للباحثين المتخصصين في دراسة الوثائق، غير أن الخطورة الحقيقية تكمن في سوء قراءة الوثائق وتصحيفها غير المقصود من قبل بعض الدارسين غير المتمكنين من ذلك، كما أسلفنا. وأشار البدراني إلى عدد من الصعوبات والمعوقات التي واجهته والتي من بينها صعوبة الحصول على الوثائق المحلية من أصحابها، ولا يقل عن ذلك، الصعوبة التي قد يواجهها الباحث عند قراءتها وترتيبها وتحقيقها لأسباب كثيرة منها: رداءة خطوط بعض الوثائق، وفقدان أجزاء من وثائق أخرى، إضافة إلى عدم وجود تاريخ الوثيقة أحياناً.