استقلال كل مدينة باقتصادها يخلق حافزاً أساسياً لتسويقها بشكل فعّال. ليس لأن هذه الاستقلالية الاقتصادية تمنح المدن مرونة مالية وإدارية هي في أمسّ الحاجة إليها في مشروع يصعب الاتفاق على حيثياته (كالتسويق) فحسب؛ بل أيضاً لأن التسويق ممارسة إبداعية في جوهرها، وإن اتخذت لبوساً منهجياً وعلمياً، ولا أكثر تحفيزاً للإبداع من الاحتفاظ بالعائد المعنويّ للنجاح في فريق عمل صغير بدلاً من توزيعه على أطراف كثيرة. الاستقلالية الاقتصادية أيضاً تقدح زناد المنافسة المحلية بين المدن السعودية. وهذه لا تقلّ أهمية عن المنافسة العالمية، لأن المشروع التجاري - فضلاً عن اقتصاد المدينة بأسره - يبدأ في الاستحواذ على الحصة السوقية الأقرب والتخصص في الحرفة السوقية الأسهل، ثم تتسع الحصة السوقية بعد ذلك ويزداد التخصص عمقاً. لا يمكن أن تقارع مدينة الباحة كلاً من بيروت أو تونس في عامها التسويقي الأول قبل أن تنافس أبها والنماص أولاً.
دبي لم تبدأ بمنافسة هونج كونج منذ البداية، بل بدأت باستقطاب رؤوس الأموال التي لم تجد لها منفذاً استثمارياً في الإمارات المجاورة، ثم بدأت في منافسة البحرين كمركز مالي والمنطقة الشرقية في السعودية كمركز صناعي، ثم وسّعت نطاق تنافسيّتها لتنافس القاهرة وبيروت كوجهات سياحية ومراكز إعلامية. السبب الآخر هو أن المنافسة المحلية تعدّ مراناً جيداً لمسؤولي المدينة لإدراك مكامن القوة ونقاط الضعف في صورة المدينة، قبل أن تدخل في سوق العالم فتكتسب صورة ابتدائية غير ناضجة يصعب تغييرها بعد ذلك.
إن استضافة مؤتمر دوليّ في مدينة سعودية ما زالت تقطع خطواتها التنموية الأولى يعد خطأ تسويقياً من حيث يظنه البعض دفعاً لاقتصاد المدينة. الزوار الذين يتأملون المدينة لأول مرة سيحتفظون بهذه الصورة لسنوات طويلة في ذاكرة غير قابلة للمسح والتعديل، ولن يتم تغيير هذه الصورة حتى تسنح فرصة أخرى قد لا تأتي أبداً.
اختيار مدينة فانكوفر الكندية لاستضافة معرض (إكسبو) العالمي عام 1986 كان توقيتاً موفقاً، فلم يتقدم عن ذلك فيشهد الزوار المدينة ذات الاضطرابات العمالية والنمو الاقتصادي البطيء، والعزلة العمرانية في أقصى الغرب بعيداً عن شرق القارة المنتعش اقتصادياً، وكذلك لم يتأخر الموعد فيفوت المدينة قطار النمو الاقتصادي العالمي في التسعينات الميلادية دون أن يغنموا من رؤوس أمواله وتوسّع استثماراته، ودون أن يقطفوا الثمرات الأولى للعولمة الاقتصادية آنذاك. خطّط مسؤولو المدينة (وليس مسؤولو المقاطعة ولا الحكومة الكندية) لإقامة المعرض قبل موعده بسبع سنوات كاملة، وفور حصولهم على الموافقة انخرطوا في عملية تجميل كبرى للمدينة، كان من ثمراتها أيقونة النقل العام المدهشة والتي تتمثل في قطار سماويّ يعدّ أطول شبكة نقل عام فوق الأرض بأكثر من 70 كيلومتراً عبر 47 محطة (مترو دبي تجاوز ذلك في 2009 بعد 25 سنة من احتفاظ فانكوفر بهذا اللقب)، أيضاً أنشئ في المدينة إستاد رياضي هائل يحتل مساحة ثمينة قرب وسط المدينة، ثم مركز مؤتمرات دوليّ ملحق بمرفأ للبواخر السياحية الفاخرة، كذلك العشرات من ناطحات السحاب مصممة بآلية معمارية تمنع احتكار الواجهة البحرية أو حجب الضوء عن المباني الأقل ارتفاعاً، ولم تنس في غمرة المشاريع العملاقة أن تنثر في أنحاء المدينة أحياء سكنية نموذجية تستوعب آلاف المنازل، كل هذا في إطار بيئي صارم يمنع أي تجاوزات عمرانية أو صناعية على ثقافة المدينة الخضراء. ارتدت فانكوفر أجمل حللها على مهل، ثم حين اكتملت زينتها بدأت في استقبال زوار المعرض الذين تجاوز عددهم أكثر من عشرين مليون زائر. تكبدت المدينة من نفقات المعرض المباشرة ما يقترب من مليار ونصف المليار دولار في حين لم تتجاوز عوائده المباشرة من الزوار المليار سوى بقليل، وبلغت الخسائر المباشرة حوالي ثلاثمائة مليون دولار، ولكن هذه ليست نهاية الحكاية. فالملايين العشرون الذين غادروا المدينة بعد انتهاء المعرض عادوا مرة أخرى مستثمرين ومهاجرين. لفتت المدينة على وجه الخصوص شريحة مهمة من أثرياء مدينة هونج كونج الذين كانوا يبحثون آنذاك عن ملاذ آمن لاستثماراتهم مع اقتراب عودة السيادة الصينية على الجزيرة (التي كانت تحت السيادة البريطانية آنذاك). كانت مخاوفهم تدور حول احتمال أن تقوم الصين الشيوعية بتأميم شركاتهم ومصادرة أموالهم فور عودة الجزيرة المستأجرة إلى سيادتها. وبدت فانكوفر آنذاك - بانفتاحها على الاستثمار والهجرة - بديلاً مثالياً، وخلال عقد من الزمن، تحول المحيط الهادي إلى جسر افتراضي من الأموال الصينية المهاجرة إلى فانكوفر، بالإضافة إلى العقول التي تديرها والعمالة التي تشغّلها. بالإضافة إلى جسر آخر من الأعمال السينمائية التي عبرت من جنوب القارة في هوليوود لتتخذ من فانكوفر ذات الطبيعة الخلابة أحد أهم مراكز تصوير الأفلام، وجسر من شركات التكنولوجيا والتقنية الحديثة عبرت الحدود من ولاية واشنطن اللصيقة التي تحتضن شركة مايكروسوفت العملاقة، ثم تفجر النفط في مقاطعة ألبرتا وانتعش العملاق الصيني، فتحولت فانكوفر إلى حلقة وصل لوجستية مهمة، وأصبح ميناؤها الأكبر في كندا حيث تعبر منه سنوياً بضائع بقيمة تتجاوز 70 مليار دولار سنوياً.
الجدير بالذكر، أن كل هذه المغامرة التسويقية التي خاضتها فانكوفر كانت بتخطيط مسؤولي المدينة، وليس مسؤولي المقاطعة فضلاً عن الحكومة الفدرالية الكندية. لربما فضّلت حكومة المقاطعة ـ لو كان الأمر بيدها ـ أن تنفق أموال دافعي الضرائب على المدن النائية والجزر البعيدة من المقاطعة، لاسيما وأن المبلغ الذي أنفقته مدينة فانكوفر على المعرض (وليس المشاريع الذي سبقته) يعادل 3% من اقتصاد مقاطعة بريتيش كولومبيا بأكملها. ولربما صعب إقناع الحكومة الفيدرالية - لو كان إقناعها ملزماً - بإنفاق كل هذه المليارات من الدولارات في مدينة غربيّة قصيّة - كفانكوفر - طمعاً في زوار قد لا يأتون واستثمار قد لا يصل، وفضّلت إنفاقه في مدن أثبتت جاذبيتها الاستثمارية فعلاً مثل تورنتو ومونتريال. ولكن أهل فانكوفر كان لهم رأي آخر.
هذا تحديداً ما لا ينبغي تجاهله عند تسويق المدن السعودية التي يحمل كل منها مقوّمات تسويقية مختلفة يصعب أن تديرها جهة مركزية. كيف تحدد الهيئة العليا للسياحة ما إذا كان شاطئ العقير السياحي في الأحساء أكثر استحقاقاً بالتمويل من مرتفعات السودة السياحية في أبها؟ وكيف تقرر وزارة النقل ما إذا كان من الأجدى إنشاء قطار سياحي يربط جنوب السعودية بشواطئ شمالها الغربي - مروراً بالمدن المقدسة - أم قطار صناعي ينقل الفوسفات من رأس الخير إلى موانئ الشرقية؟ كل هذه الأسئلة قد لا تجد لها إجابات حاسمة عندما يكون الأمر مقصوراً على لجنة مركزية لا تملك حافزاً مباشراً لتسويق تلك المدن، ولا شعوراً بالتواشج مع مشروعها التسويقي.