تختلف الحالة بين العرب والغرب في فكرة إنشاء الجماعات الإبداعية أو الأدبية.. فمسمّى "جماعة" واجتماع أشخاص للتداول في شأن إبداعي وإعلان مكان دائم للقاءات، من الأمور التي كانت وما زالت مخيفة في بلدان "الربيع العربي" فيما هي في بلدان أخرى من المسائل الاعتيادية، كما في السعودية التي عرفت منذ زمن بعيد الصالونات الأدبية واللقاءات الحوارية من اثنينية وثلوثية وغيرها مما ينظم في بيوت النخب خلال أيام الأسبوع. وصارت الجلسات الفكرية والأدبية جزءاً من نسيج المكان وتاريخه.
ولكون الشعوب الأوروبية انتهت من "الربيع الغربي" وانتقلت لبناء مستقبلها بعد نجاح ثوراتها، فإن زوال القمع وحلول الديمقراطية وأفكار التحرر مهّدت الطريق لنهضة إبداعية في الأدب والفن خلال القرن التاسع عشر.. واستمرت الحالة بصورة أقوى في القرن العشرين.
تلك النهضة الإبداعية حملت تنوعاً في الأفكار، فظهرت تيارات مختلفة، لكل منها رؤيته للحياة، فتشعبت الجماعات والمدارس الإبداعية، وتلاحقت المراحل الحافلة بالمنجزات والمبدعين الكبار الذين وجدوا فضاءات حرة تتقبل أعمالهم وأفكارهم حتى الجنونية منها، والجنونُ لم يمنع السرياليةَ ورموزها من صناعة حضور متميز في المجتمعات الأوروبية.
وانطلاقاً من أن البيانات تصدر عادة عن أفراد أو جماعات يمكن لنا أن نستنتج من خلال البيان السريالي الأول الذي أصدره أندريه بريتون عام 1924 أن "السريالية" - قبل أن تصبح "مدرسة" - بدأت كـ"جماعة أدبية" ولدت نتيجة مخاض فكري وإبداعي سبقها في الفنون الإبداعية الحديثة، مثل ما أنجزه "فرويد" في التحليل النفسي و"تفسير الأحلام"، وما قدمته التكعيبية ثم الدادائية في الفن التشكيلي وغير ذلك. واستناداً على رؤيته الحداثية أوضح "بريتون" في كتاب "السريالية والرسم" أن الكتابة "طريقة تلقائية في المعرفة اللاعقلية، تقوم على إعطاء التداعيات والتفسيرات الهذيانية موضوعية نقدية منتظمة". أما في التشكيل، فقد قطعت السريالية أشواطاً أبعد لدى الجمهور لوجود فنان كبير اسمه سلفادور دالي أطلق إبداعاته معتمداً على الترميز باستخدام كتل واقعية تشكل الحلم وتصنع تكوينات ترتقي على الواقع المرئي.
إذاً، نستطيع القول إن توفر المناخات المناسبة جعل "السريالية" تتألق وتتطور، فيما غيّب العرب المناخات المناسبة فضاعوا وتلاشت جماعاتهم التي ربما تعود بعد مرحلة "الربيع".
في مقال مقبل نتحدث عن الروابط الفكرية بين "السريالية" وجماعة "الحنافل" التي تأسست في جامعة حلب منذ حوالي ثلاثة عقود، وهي جماعة فكرية ظريفة تمتلك رؤية خاصة للحياة، لكن بسبب الظروف المحيطة أظهر مؤسسوها – ما بين شاعر وتشكيلي وسينمائي - للآخرين أنهم مجرد جماعة "عبثية"، وما زالوا لغاية اليوم يعبثون.